تذكرت فشلي في الإجابة وأنا جالس في الحديقة أمام البيت, وقع هذه الجملة لطيف "جالس في الحديقة أمام البيت".. هذا البيت ليس أكثر من شقة متواضعة البناء والتشطيب بأحد التجمعات السكنية الجديدة, ميزته الوحيدة هذه الحدائق المنتشرة بكثرة, كانت هناك ميزة أخرى منذ عدة سنوات: أن تستطيع شراءها, الآن تخطى سعرها حاجز المائة ألف بخمسين ألف كاملة. كنت أتخيلها حديقتي الخاصة.. الجو ربيعي دافئ.. تمر أحيانا نسمة رقيقة تحرك أوراق الأشجار, خشخشة الأوراق لا يضاهيها سوى زقزقة العصافير في أوقات شروق الشمس وغروبها. أجلس تحت إحدى الشجيرات على مقعد بلاستيكي وأمامي ترابيزة أضع عليها كوب الشاي وكتابا آخر غير الذي في يدي. اتساع الحديقة وبعدها عن نهر الطريق يحيط المكان بخصوصية رائعة. العابرون رغم قلتهم يسيرون على بعدٍ كافٍ من مجلسي, بحيث أستمر في القراءة دون الشعور بنظرات التطفل.
العيب الوحيد كان سكان العمارة نفسها, إذ أنهم في نزولهم وصعودهم يلقون التحية, فأبعد عيني عن الكتاب مبتسما مرة.. مجاملا بهزة رأس مرة أخرى, وغالبا أرفع صوتي صارخا : "اتفضل", حتى أن أحدهم "عم صلاح" قَبِل دعوتي وتفضل جالسا أمامي.
انتهينا من السلامات التقليدية.. والسؤال عن الصحة, ولم أجد موضوعا مشتركا نتحدث فيه معا غير مشاكل الأسعار التي تقفز يوميا مرتفعة بجنون .. أزمة الخبز.. الغاز.. المظاهرات التي لا تنقطع, أوضحت له – محاولا أن أطمئنه وأطمئن نفسي - أن الأمل كبير في الله وفي الحكام الجدد, قد نشعر أحيانا ببعض الأزمات, لكن ألم تكن تحدث بنفس تكراراتها؟ وفي مواعيد محددة اعتدنا عليها؟, يوافقني الرجل بهزات من رأسه مصدقا على كلامي.. يذكّرني بضحايا الخبز في العام الماضي. في الحقيقة لم أشعر بتلك الأزمة, إذ أني تعودت من أعوام أن أشترى الخبز السياحي مبتعدا عن الطوابير ورداءة الخبز الحكومي المدعوم. ومن وجهة نظر اقتصادية بحتة أرى الخبز السياحي أرخص, ذلك أني تجرأت – وفي يوم أجازة – واشتريت الخبز المدعوم .. رميت نصفه ولم أستطع بلع النصف الآخر بعد ساعة واحدة من شرائه..
سرّني التعرف على "عم صلاح" وجدته إنسانا مرحا خفيف الظل, لا يستنكف أن يسخر حتى من نفسه ومن حاله… بعد عدة جمل عن صعوبة العيش وقلة النقود قال بتلقائية :
سأحكي لك موقفا حدث معي منذ يومين, تعرف سيادتك؟, الولد الصغير أحرجني الصبح عند خروجي. ماذا طلب؟ طلب مني شراء بطيخة. قلت في عقل بالي : إن عدت بنقود تكفي الأكل, الوجبة الأساسية, فهذا فضل وعدل من الله .. لم يخب الله ظني, أملي في وجهه الكريم, مر اليوم على خير فاشتريت للعيال بطيخة متوسطة الحجم والسعر, ربك مع المنكسرين جابر.
بعد أن أكلنا قلت : نحلّي.. كسرت البطيخة .. صدمني لونها الوردي الفاتح القريب من البياض. لِفت يا مولانا, ضحك مَن ضحك من العيال وزعل مَن زعل. تركت نصفها ليبرد وقسمت الآخر علينا, كان طعمها – لا أراك الله مكروها – ماسخا كالخيار .. قلت مازحا ومفوضا أمري لله : هذا هو البطيخ وإلا فلا.
الولد الصغير – ابن الخبيثة – بعد أن انتهى من القطعة في يده, راح ينظر نحوي وينحت القشر بأسنانه, ظننته ما زال جائعا, نبهته أن ما يفعله لا يصح, خطأ, قال بتلقائية مصطنعة: لا يوجد فرق في الطعم, ونظر لإخوته متساءلاً: هل لاحظ أحدكم فرقا بين قشرها ولحمها؟
استجمع الولد الثاني شجاعته : والله أكلتها باللب, فهو أبيض طري ولم أشعر أن بها لبا أصلا.. نفس اللون والطعم.
وهل يفوّت الولد الكبير الفرصة للتندر, وقد لاحظ صمتي تجاه كلام إخوته؟ قال لأخيه : لماذا أكلت اللب. ونظر تجاهي : صحيح يا والدي, لو زرعنا هذا اللب الأبيض ينتج بطيخا أحمر أم أبيض كأبيه بالوراثة؟
انتابتني الحيرة, ليس من سؤال الولد, لكني تمنيت أن يأكل العيال شيئا اشتاقت له نفوسهم. وطبعا لم أكن أملك ما أشتري به واحدة أخرى قد تكون حمراء أو لا تكون.
هنا أنعم الله عليّ بالفكرة.. ستستغرب والله يا أستاذ, قلت لهم وأنا أمثل الجدية : تعرفون أن النصف الآخر سيكون غير هذا تماما, هذا ما اعتدناه في البطيخ, قد يماثله في الشكل, في اللون, أما الطعم فهو بإذن الله شيء آخر.
تعجب الأولاد, ابتسم الكبير, أما أصغرهم فبدا عليه عدم التصديق, قال متبجحا: أتريد إقناعي أن نصف البطيخة بطعم مختلف عن النصف الآخر؟!! كيف وقد كانت واحدة, قسمها السكين نصفين؟!
قلت : هل جربت النصف الآخر؟
رد متعجبا : لا …
فقلت : اصبر وسترى, لا تحكم على شيء قبل أن تجربه.
لم أرد أن أقاطع "عم صلاح" , طريقته في الحكي وتعبيرات وجهه والإشارات التي تصحب الكلمات كانت تمتعني .. غير أني تذكرت لغز نصف البطيخة فابتسمت وتركته يكمل.
أحضرت النصف الآخر وقسمته كالأول.. أقنعتهم باختلاف المذاق, وإلا بماذا تفسر استغراقهم في القضم بل التلذذ, كنت أيضا حين ألتهم قطعة أرفع صوتي مبتهجا : الله … لذيذة.
استمر صمتهم ولم أسمع التعليقات الساخرة السابقة, لا أعرف هل وضع الله بها سكرا.. أم أنه – سبحانه – جعل الحلاوة في أفواههم؟ أَم أن العيال اقتنعوا بكلامي فظنوها كذلك؟
تركني عم صلاح وقام يقضي بعض حاجاتٍ لبيته, جلست محتارا, هل حقا اختلف نصف البطيخة, أم أن الرجل يتصف ببلاهةٍ ما أقنعتْه بذلك؟ أم أن نصف البطيخة – كما أعلم ويعلم الجميع – يشبه تماما نصفها الآخر؟
27 مايو 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق