الأحد، 5 يونيو 2011

الحبل السري

 



كأغلب الحكايات وأكثرها حدوثا وتقليدية.. بدأت الحكاية بإحدى المدن البعيدة.. تنتظر بلهفة خطاباته الأسبوعية يرسلها من القاهرة حيث كليته وعمله.. تحسب الأيام.. تعد الساعات .. مرور الزمن الفائت منذ استلام خطابه الأخير.. متى يرتفع صوت البوسطجي مناديا اسم والدها (ومنه ليد الآنسة …….) سطور جديدة تضاف لقصتهما .. تعينها على تحمل تكرار أيامها.. تعدد النسخ لهذ الأصل الوحيد ليوم يبدأ بالاطمئنان على الطيور وإيقاظ إخوتها الصغار.. رعايتهم بعد وفاة أمهم .. إشعال الفرن للخبيز .. يوم متكرر بكل تفصيلاته الدقيقة المملة أحيانا … 
وجاء اليوم .. الزفاف .. أقيمت ليه العرس .. الأنوار تضيء البلدة الصغيرة .. وتبعث الأمل في أيام قادمة .. تحملهم سيارة الزفاف إلى القاهرة حيث يعيش ويستأجر هذه الشقة الصغيرة ..يتوج شعرها طرحة الزفاف.. لتبدأ حياتي أنا .. أول حرف بأول كلمة كتبها أبي من سطور حياتي.. فوق هذا الفراش الذي أفرد عليه جسدي الآن وعيناي لا تفارق الشرخ الكبير بالجدار .. الشرخ الذي يكبر كل يوم وتتشعب أطرافه.. هذا الشرخ الذي كان سبب اتصال أمي بي صباح اليوم….
جرس الهاتف الطويل أيقظني .. صوتها بالهاتف صارخا على غير عادته .. تطلب العون .. النجدة .. تأمرني أن أجلب معي أحد أصدقائي المهندسين ليرى هذا الشق الذي سيبتلع - كما تقول - البيت وهي داخله.. فتفزعني كلماتها .. أشعر بالبيت يتخلخل يتهاوى منهارا.. ولا يتصور عقلي صورتها تحت الركام.. يرفض العقل الصورة.. فأسرع مرتعبا مرتديا ما طالته يدي من ملابس وأهرول مسرعا إليها..
ساعة ونصف أقضيها على أعصابي .. أحمد الله أنه صباح الجمعة .. طريق المحور شبه خال.. وإلا ضاعت ثلاث ساعات ونصف في الطريق.. أفتح الباب مهدودا .. تحيني باسمة .. وكأنها شخص آخر غير التي استعجلتني للحضور.. أو كأني أنا غيري!! أحييها وأسألها عن الشرخ.. فتسألني عن إفطاري وهل تناولت شيئا .. تُعدد أصناف الطعام بالثلاجة.. بيض وعسل وعجينة طعمية..  خذ نفسك واسترح قليلا إلى أن أجهز لك إفطارك!!
على مهل أفتح الغرفة .. سرير أبي .. أشتاق أن أفرد جسدي عليه، أتذكر حين رفض السرير  أن أنام مكان أبي!!! وهل ترفض الأسرة النوم عليها .. حدث معي هذا…
ثلاثة أشهر كاملة قضاها أبي - رحمه الله - نائما على هذا الفراش .. كان قد تجاوز السبعين.. كطفل صغير بابتسامة راضية تملأ وجهه كان نائما.. لا يستطيع الحركة، فأتناوب وأخي النوم على الأرض جوار فراشه.. وعند أول حركة.. عند أول تغيير في صوت تنفسه أسرع لأرفع رأسي بمحاذاة جسده.. مستفسرا عن حاجته فيرد بصوت ودود:
- لا شيء نم أنت واسترح .. فأنت لم تغمض منذ أيام.
تستفزني طيبته .. وقلقه عليْ وهو النائم بلا حركة على الفراش .. أبين له أني موجود جواره فقط لألبي حاجاته وإن أيقظني كل دقيقة.. فيعود مرددا :
- حاول أن تنام.
بعد أن قضي الله أمره .. وغادرنا أبي .. بجسده .. بعدها بثلاثة أيام حاولت النوم مكانه .. بشوق أفرد جسدي على تلك المساحة الصغيرة التي احتضنت جسده ثلاثة أشهر .. شيء خفي أبعدني عن تلك المساحة.. إحساس غريب خفي دفعني للطرف الآخر من الفراش.. وكأن روحه لم تزل بنفس المكان .. وكأنني - عن جهل - كنت أحاول النوم فوق جسد أبي.. فوق روحه.. كان أبي مال يزال موجودا ويراني!!
قد يكون هذا سببا من الأسباب الكثيرة التي جعلتني - بعدها بعدة أشهر - أعقد قرآني على حبيبتي.. قبل أن أغويها لتذهب معي للبيت..، شعوري بقداسة المكان .. طهر هذا الفراش الذي حمل أبي مريضا .. وحمله في ليلة زفافه لتبدأ أولى مراحل وجودي .. كنت أخطط كيف أجعلها تخفف قليلا من قلقها المحتشم.. وتزورني.. رفضت رفضا قاطعا ذهابها معي لبيتي.. وحين خططت أن أكون معها ببيت أبي ..بهذا الفراش لنوقع عليه بداية حكايتنا وليختم هو بخاتمه الجليل الحكاية .. كنت آمل أن أكتب أول حروف حكاية ابني عليه .. عقدت قرآني عليها بحضور بعض الأصدقاء القلائل.. ودون علم أمي التي كانت تزور إحدى البنات.
أحاول استغلال دفء البيت .. إحساس الراحة يملأني فأحاول نقله لحبيبتي .. إحاول إطالة مدة بقائنا بالبيت قدر ما أستطيع .. أقترح أن تعد لي فنجان قهوة .. لأتذوقها للمرة الأولى من يدها .. أصطحبها للمطبخ الصغير.. أعرفها عليه وأعرفه عليها .. أدلها على أماكن أوعية البن والسكر والملاعق الصغيرة .. وفنجاني المفضل .. وحين أتم شرب القهوة تسألني بخجل عن مكان نومنا .. أشير إليها .. حجرة أبي وسريره .. وأخجل أن أصحبها إليه.. أستأذنها لأخذ دش صغير.. أفيق به روحي .. أنعش جسدي ونفسي .. وأخرج لأجدها ممددة عليه بانتظاري.
* * *
أقوم محاولا دراسة الشرخ.. أظنه سطحيا.. لا يتجاوز طبقة الأسمنت الرقيقة.. أطمأن نفسي أنه لم يصل لعمق الجدار.. لم يكسر طوبه الأحمر المتلاصق .. أذهب للجهة الأخرى .. الشرفة .. فأجد الشرخ هناك .. وجهه الآخر .. محوطا الجدار من الجانبين .. إذن هو ليس سطحيا.. صوت أمي يناديني بعد أن أعدت الإفطار .. هي من قال لي أن أسترح قليلا!! ولم تتركني لهذه الراحة القصيرة!! لا أنوي مكاشفتها بسر الشرخ.
- يا ابني انت هنا لتنام؟ لتجلس وحيدا؟
لا أستطيع أن أكلمها عما يحكي لي الفراش .. دفء الذكريات وكل عناوين حياتي الكبيرة المخطوطة عليه .. خروجي من رحم هذا الفراش.
-  العمر الطويل لك .. كان أبوك رحمه الله يحب أن أضع كل هذه الأصناف في إفطارة .. ولا يأكل إلا القليل.. ما أشد الشبه بينكما.
أتذكر حنان أبي الذي لم أرثه.. قبل مرضه بشهور كنت نائما هنا .. الساعة السابعة مساءً.. عدت من عملي لأطمأن عليهما .. متعبا يحطم الصداع النصفي جمجمتي.. يكاد يفجرأ رأسي .. أطفأ نور الغرفة وأحاول إغماض عينيي.. يعبر أبي في طريقه لغرفة مكتبه حيث يسهر على أوراقه حتى منتصف الليل .. يتعجب من نومي مبكرا .. فأخبره عن صداعي.. الذي أجبرني على النوم … على الظلام .. يسرع إلى جواري جالسا.. ماسحا رأسي .. يتلو بعض الرقى.. آيات الله المباركة.. يتمم رقيته ويسألني عن اسم دوائي مقترحا أن ينزل لشرائه.. ألعن الصداع في سري .. أقبل كف أبي وأسرع قائلا :
- إن كنت تحتاج شيئا أنزل أنا لأحضره لك.. الحمد لله ذهب الصداع..
يبتسم مكتشفا خداعي .. لم يتركني الصداع بعد ذلك ولكن كيف أسمح لنفسي أن ينزل هو بتعبه وشيخوخته ليحضر الدواء.. فأقسم أني قد شفيت.. يعود ليمسح رأسي ويتركني لأستريح
*   *   *
تسألني أمي بقلق عن الشرخ .. أطمأنها على متانة البيت .. أمازحها مذكرا إياها بيوم الزلزال الكبير الذي لم ينل منه …
- لكننا لم نكن فيه ساعتها..
- لكنه لم يسقط .. لم ينهار.
كنت يومها على حدود مصر .. أقضي فترة تجنيدي.. بعيدا عن القاهرة مئات الكيلومترات.. أخذت حماما سريعا وقت الراحة .. ما بين عملنا النهاري وما ينتظرني من ورديات ليلية .. الثالثة عصرا .. محاولا النوم على السرير الميري المنخفض .. أشعر بهزة خفيفة دامت لثوان .. أٌرجع الأمر إلى الحمام السريع الذي أخذته .. بالتأكيد هو ما جعلني أشعر بهذه الدوخة.. أنام ساعتين لتوقظني يد زميلي الشبراوي..
- اصحى .. الزلزال .. حدث .. ما كنت تتكلم عنه قبل نومك ضرب زلزال كبير البلد .. نشرته الجرائد ويذاع الآن بالتلفزيون .. أتعجب من سذاجته .. وأشك في كل ما يقول .. أي جرائد تلك التي طبعت في ساعتين ووصلتنا هنا في آخر الدنيا؟ يقسم أن ما يقوله حقيقي .. حدث فعلا .. أرتعب من قسمه .. إن كنت أنا هنا في آخر الدنيا شعرت به فماذا يمكن أن يكون حدث بالقاهرة .. 
على عجل أخرج للكافيتريا جوار الميناء.. لا حديث للناس سوى الخسائر التي كابدتها العاصمة .. أكثر المصائب كانت بالأحياء القديمة .. السيدة زينب.. الساحل .. شبرا
يقع قلبي .. في آخر أجازة لي للبيت منذ أسبوع ..كان يقف وحيدا عاريا.. المنزل المجاور اشتراه مالك جديد فهدمه وحفر عميقا بالأرض ليضع أساس عمارة متتعددة الطوابق.. بيتنا يقف عاريا وتحت أقدامه حفرة كبير.. لا يجد ما يستند عليه.. إذن انهار البيت بلا شك .. كان يهتز بشدة عند مرور القطار .. أري بعيني اهتزاز الماء داخل الزجاجات وتخبطها ببعضها حين يمر القطار سريعا أسرع تاركا الكافيتريا راكضا للسنترال .. كل من في المدينة هناك .. ليطمأن على أهله.. على معارفه .. ساعات الانتظار طويلة.. معرفتنا بعامل السنترال سهلت الأمر .. يأتيني جرس الهاتف من بيتنا ولا مجيب.. أكرر المحاولة مرات .. يعاتبني عامل السنترال.. دع غيرك يجرب .. أحاول تذكر أرقام معارفي.. تقفز في رأسي نمرة أصهارنا .. عندهم أيضا لا أجد مجيبا غير الجرس الطويل .. أجن .. هل انمحت شبرا من الوجود؟! صورة الأنقاض بالتلفزيون تقتلني لا أرى من البيت سوى فراش أبي .. أراه وأمي نائمين بوداعة حين سقط بهم البيت.. تسعفني ذاكرتي برقم خالي ببورسعيد.. هو أقرب مني إلى القاهرة .. علَّ عنده أخبار .. يطمأنني صوت ابنته.. حاولت الاتصال ولما لم تجد أحدا بالبيت اتصلت بأختي بمدينة 6 أكتوبر .. هم جميعا بخير .. هم هناك.. أمي وأبي وأصهارنا جميعا بخير .. كجبل ينهد أجلس على كرسي انتظار.. وأتمتم بكل ما أحفظ من أدعية شكرا لله على سلامتهم.
*   *   *
ايه يا ابني.. كُل.. انت سرحت؟
- انتِ هنا وحدك وأنا هناك بعيدا عنك.. لماذا العناد.. تعالي معي.. نؤنس بعضنا..
- ولمن أترك الناس هنا؟ صاروا أهلي..
- يا أمي نحن أهلك أولادك.. وأنا ابنك
- هنا .. الناس طيبون، تعرف؟ الحاجة مالكة البيت - رغم خوفكم وأنتم صغار منها - لن أنسى لها ما حييت وقفتها جواري في كل ظروفي الصعبة.. تعرف؟ ولادتك يا ولد كانت أصعب ولاداتي.. ولادة لم أر مثلها، كانت بعشر من مثيلاتها، تألمت كثيرا.. وحين جاء الموعد .. نزل كل ما يحيط بك.. فرغت بطني تماما إلا منك.. ورفضت أنت النزول.. أسبوع كامل وأنت بالداخل متشبسا.. خائفا من الخروج.. ياااه.. يشهد الله على ما عانيت على هذا السرير الذي لم يبدله الزمن..
كنت تنام جواري .. قطعة من اللحم الأحمر.. تصرخ ولا أستطيع الحركة .. لا أقدر على إسكاتك.. وأبوك في الشغل.. أحيانا تأتي إحدى معارفنا.. إحدى القريبات لتقف على باب الغرفة واضعة يد بوسطها مستندة على الباب بالأخرى وتسأل :
- محتاجة لشيء؟
فأجيب متعبة :
- شكرا….
وأسكت .. مَن تنام نومتي.. وما زالت بوجع الولادة (محتاجة لشيء)؟؟ إلا الحاجة شفاها الله.. دخلت دون أن تسأل.. مدت يدها تحت السرير لتحضر ما تطهوه لنا .. وجدت طبق الغسيل ملآنا .. ملابس متسخة قذرة مبقعة إثر الولادة .. أتمت الغسيل والطبخ بسرعة وهي تلومني لأني لم أستدعها لعمل ذلك.. 
عِشرة يا ابني.. وأنت ستخرج لعملك وتتركني وحيدة في مدينة العفاريت التي تسكنها!!
أسألها مستفسرا عن ساعة مولدي.. وقت خروجي للحياة ..
- كان أبوك يصلي العصر.. وكنت أصرخ أستعجله ليستدعي الداية.. أنت الوحيد من إخوتك من خرج للدنيا على هذا السرير..
أبتسم.. فمن رحم هذا الفراش ولدت .. يربطني به حبل سُْري.. سِْري.. لا يراه سواي ولا يحسه.. لم ينقطع مع مرور السنين بل ازداد متانة مع تراكم ذكرياتي معه .. هو من خُطت على صفحته سطور حياتي.. وليس كما كنت أحسبه مجرد فراش عادي بسيط أخرجني عليه رحم عروس صارخة من الألم .. يتفصد جسمها عرقا.. مبتسمة بزهو بعد خروج ابنها البكري للحياة.
فراشي يعلوه الآن شرخ كبير .. يتسع يوميا .. ولا أعرف كيفية التعامل معه.. صوتٌ داخلي يؤكد علي.. يخبرني بيقين أنه لن يتسبب في أذى لأحبائي في حال غيابي.. إحساس غامر بأنه سيكون رحيما بي حين أنام ثانية على فراشي بجواره .. متذكرا كل أيامي الفائتة.. سيغافلني وأنا سارح مع ذكرياتي.. ولن يشعرني بأي ألم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق