على الرغم من صغر سنه - إذ أن سنواته نصف سنواتي تماما - كان يوسف أنبل من رأيت.. عشقه للحياة.. تفتح عقله بشقاوة محببة.. اتخذته صديقا وزميلا.. يفتح اللاب توب لينجز مهمة سريعة لأبيه، تقويم للعام الجديد يصممه بعبقرية.. تمتزج الحروف العربية بإحساسها التراثي العتيق مع تركيبات لونية حديثة.. أطلب لنا فنجاني القهوة المعتادة.
يبدأ بالسؤال عن أحوالي.. بدفء يرجوني أن أبلغ السلام لابني وكأنه أخوه.. ودون أن أسأله يحكي..
- ذهبت لأبيها أطلب يدها.. أجّل الموضوع إلى أن تتم دراستها!
- هل هي طالبة كلية الآداب التي حدثتني عنها؟ تلك التي تتعامل مع حكايتكما ببعض التعالي وعدم الاكتراث.
- هي.. لكن الجميع يرى أن التعامل يتغير يختلف بصورة كلية بعد الخطوبة والزواج.
أبتسم له وأقهقه بأعماقي، لا أريد أن أتلف أعصابه، فقد ينجح هو فيما فشلت أنا فيه.. أمازحه:
- التعامل يتغير بالفعل، لكن بطريقة سلبية، تتحول البنت، تكون غاية في الرقة, في التهذيب إلى أن تصبح أنت زوجها.. أجارك الله.. إن تكلمتَ مفضفضا معها عن مشاكلك تتهمك بأنك فقدت الرومانسية.. كل ما تقول يصبح خاليا من الرقة.. الإحساس.. وإن تصمت تطالبك بالكلام.. تصفك بالصنم.. هذا إن لم تُتهم بالتكشير والعبوس الدائم.. جملة وحيدة ستسمعها يوميا تكون شعار أيامك ستقول لك: ألا ترى وجهك؟ انظر في المرآة.
- رأي يوافق رأيك، فأنا أرى ما تقول يوميا في البيت بين أمي وأبي.. لكني أراها مناغشة العشاق.. ذهبت للرجل فقط كي لا تسألني هي كل حين عما فعلت ليستمر الموضوع.
أنبهه ألا يراهن على مرور الوقت وتبدل الصفات الشخصية.. كل تلك الحكايا ستصير ذكريات يراها في عقله فيبتسم.. اختلف الزمن، تبدلت حكايات العشق، صارت أكثر عملية.. أوضح له أني وللأسف أشعر بما يعانيه ما يحس به من حيرة وألم.. أراه أعقل من أن ينساق خلف حدوتة كتبت نهايتها منذ البداية.
يرميني حديثه في بئر الذكريات.. أيام كان أغلب العشق من طرف واحد.. نعيش على وهم الحب.. أعود بزمني خمسة وعشرين عاما مضت بل أكثر.. أسأله:
- تعرف المطرب وجيه عزيز؟
- سمعت له أغنيتين.
- يقول : (الذكرى خليها لمّا الجراح تبتسم يمكن أغنيها)… من كثرة الجراح صارت حياتنا سلسلة من الأغنيات.. أوبريتا طويلا.. رغم المرارة تصبح كل ذكرى جزءا جميلا من الحدوتة.. كلمة من الكلمات التي تصطف لتكمل قصتنا .. تاريخنا.
- تعرف يا يوسف لماذا اخترت لابني هذا الاسم؟
- لم تخبرني من قبل، لماذا؟
تترك أصابعي العبث بالمفاتيح.. ألف يدي خلف رأسي ممدا قدمي تحت المكتب وأتذكر بصوت مرتفع:
- كنتُ أصغر منك.. بل بدأ الموضوع قبل أن أعي بدايته.. أنتظر العيد بفرحة أي طفل.. فهو اليوم الوحيد المسموح لنا فيه بامتلاك قدر لا بأس به من النقود.. الخروج للشارع دون السؤال عن كيفية صرف النقود أو عن وقت عودتنا.. تصرفاتنا من وحي عقولنا فقط.. نذهب أينما شئنا.. كانت هي أول من أذهب إليه.. تربطنا قرابة بعيدة.. أنسل هاربا من أصحابي.. وأذهب لبيتهم.. أدعوها للخروج معي.. نلف حول مقام سيدي رمضان.. أشهده في سري على حبنا.. أعاهده بحرقة أن تظل حبيبتي.. أن أحافظ عليها.. نشبّ على أطراف أصابعنا.. ومن خلال الشباك الصغير نصف الدائري نلقي نظرة على الضريح.. على عمامة الشيخ الخضراء .. كنا نتصور أنها رأسه موضوعة فوق الضريح.. نرفع أصواتنا ليسمعنا.. أرضية الشباك ملأى ببقايا شموع النذور الصغيرة.. أختار واحدة انطفأ لهبها قبل أن تذوب تماما وأعطيها لها.. طالبا منها إشعالها حين يحقق الله حلمها.. مرادها، ولا تسألني عن مرادي أبدا، رائحة شجرة ذقن الباشا التي تحتضن المقام ما زالت بأنفي.. ألتقط بعض الفروع الصغيرة ذات الشعيرات الحمراء والصفراء الناعمة.. أهديها لها.. ولا أنسى أن أمرر فروعا أخرى على وجهها تدغدها فتضحك.. أحتفظ بها وسط كراساتي متخيلا أنها تحمل رائحتها.. تحمل ملمس بشرتها الناعمة.. أدعوها لطبق الكشري.. متعتنا الأكل خارج البيت.. عربة ملونة جوار المقام يزيدها إشراقا ملابس الأطفال المبتهجين، معها للألوان مذاق آخر.. للدنيا كلها بهجة أخرى منعشة للروح.. حتى الكشري كان يومها يبدو مختلفا.
يقاطع يوسف تسلسل الذكريات:
- أنت عشت بمكان آخر غير الذي زرتك فيه، عند الحاجّة؟
- هو نفس المكان.. شاخ كما شخنا.. أزيلت عربة الكشري وتحول مقام سيدي رمضان إلى مسجد الشيخ رمضان.
أعود للذكرى.. طبق الكشري.. أحاول استعراض بطولة طفولية أمامها.. أطلب من البائع ملعقة شطة كبيرة.. لم تكن الشطة السائلة اخترعت أيامها.. يملأ الملعقة بالمسحوق الأحمر المشتعل.. يقربه مني.. وقبل أن تصل يده للطبق يصطدم كوعه بأحد الأولاد.. فيطير المسحوق قاصدا عيني.. لا تطفأ مياه الدنيا النار التي اشتعلت.. أرى قلقها.. لوعتها وسرعة تصرفها.. ألقت طبقها المليء باحثة عن أي شيء ينقذ عيني .. ملتاعة تحاول إزالة قطعة الجحيم الملتصقة بي.. أنشغل عن الشطة بتصرفها الحاني.. أراقب اهتمامها بي.. قلقها عليّ.. وأضع تعريفا خاصا بي للعشق أكتبه بين قوسين في رأسي (الاهتمام) أن يهتم بك أحد إلى هذا الحد.. هو العشق يا يوسف.
- ما اسم بائع الكشري؟ لم تقل لي.
- وما دخل اسمه بالموضوع؟ اسمه سيد.
- لأنك حتى الآن لم تقل لي سبب تسمية ابنك.
- كأنك زهقت؟
- لا والله، أنا سعيد بحكيك.. متشوق فقط لسماع النهاية أحاول إعمال عقلي فيما تقول.
- اصبر وستعرف.
- حاضر.
عشنا الطفولة بهذه الطريقة.. عشقي لها واهتمامها بي.. ولا أهتم أن أسألها هل تحبني أم لا.. هل تسأل شمس الظهر طلعت أم لا؟ كأنه واقع، أقنع بما خصتني به وحدي، وكأنها اعترفت لي بالعشق.
نسيت أن أقول أنها تصغرني بعامين.. صارت زميلة أختي في الكلية.. في السنة الثانية.. وكان عام تخرجي من كليتي.. غابت عنا سنة دراسية بتمامها.. رغم امتلاء الكلية بما لذ وطاب من البنات كنت لا أمل السؤال عنها .. الاشتياق لها.. بداية الأمر أخبرتني أمها أنها عند أختها بالبلد.. أختها حامل.. متعبة، ذهبت حبيبتي لترعاها.. أسألها بقلق متي ستعود.. أخبرها بقلقي إزاء دراستها.. فتسهب في وصف تعب الأخت المريضة.. وتتحول لوصف حالتها هي.. وحيدة لا تجد من يسأل عنها! أعدها بالمرور الدائم للاطمئنان.
كلما هدني الشوق.. هزمني.. أجدني بيتها.. متنسما رائحتها في كل ركن.. أجلس وحيدا بغرفتها.. تلك التي حُرّم عليّ دخولها وهي موجودة..
عائدا للبيت كنت.. مرهقا من طول ساعات العمل.. رأيتها بالميدان.. تقف على المحطة أمام المسجد وبين يديها طفل لم يمر على ميلاده أيام.. أقترب محييا.. قبلتُ الصغير في حضنها.. لأشم الرائحة الحبيبة.. أسألها عن الصغير فتقول:
- ابن أختي.
سألت عن أختها وصحتها فأخبرتني أنها سبقت أختها في النزول.. أتعجب من وجود أختها غير الشقيقة عند أمها.. أعلم ما بينهم من جفاء.. أعود للطفل محاولا أن أصل الحديث.. مظهرا شغفا تمثيليا به.. تلاحظ شدة اقترابي منها كأني أداعبه.. تفرد يديها تناولني الصغير.. أحمله ويداي ترتعشان.. قطعة حمراء طرية.. أخشى أن يلتوي في يدي.. أن تسقط رأسه.. أرده إليها معتذرا بجهلي بأحوال الرُضّع.. أسألها عن اسمه فتقول بصوت لا أكاد أسمعه :
- عاشق.
اسم غريب لم أسمعه من قبل.. يعجبني تفرد الأسماء.. تخيل نفسك حاملا اسما لا يحمله في العالم سواك.. أمازحها:
- عاشق الأسامي.. أقصد عاشت الأسامي.. لكن عاشق ماذا؟
ترتبك ملامحها.. تحاول الهرب من الإجابة بصمتها المريب.. ألاحظ ما اعتراها من قلق وارتباك فأكمل:
- أقصد.. ماذا يعشق؟
لم أقصد السؤال عن اسم أبيه كما فهمت هي.. مالي أنا واسم أبيه.. تتنفس بعمق كمن انتُشل من بئر:
- عاشق.. يعشق كل جميل.
أكمل بعدها:
- وياما شفتي جمال يا عين.. لكن لا توجد من هي في مثل جمالك.
تعود لترتبك.. تطرق خجلة.. تستأذن لشراء حاجيات الصغير من الصيدلية.. أقترح أن أصحبها فترفض بكلمات قاطعة حاسمة.. أتركها واعدا نفسي بلقاء قريب وقد ظهرت أخيرا.. ألم تظهر؟
الخطوات القليلة للبيت أقضيها مدندنا اللحن الجميل (واللي صدق في الحب قليل قليل وإن دام يدوم يوم وللا يومين).. عشقي لبيرم يؤكد أنه يقصدنا بهذا القليل.. أعتب عليه فقط لأني أوقن أن حبنا سيدوم لآخر الزمن.
انتظر شقيقتي بشوق لأخبرها عن ظهور حبيبتي المفاجئ.. فرحتي بعودتها.. لا أصبر حتى تستريح أختي من مشوار الكلية.. وهي تلقي الكشاكيل والحقيبة على أقرب كنبة أخبرها.. فتصمت.. تعود بعد قليل لتسأل مندهشة:
- حقا عادت؟ أنت رأيتها بعينك؟
- وماذا كنت أقول.. ألم تسمعيني؟
فتعود لتسأل:
- هل كان معها أحد؟
- لم يكن معها سوى طفل صغير.. ابن أختها.
لا تجد مفرا من أن تخبرني:
- على فكرة هو ابنها هي.. كانت عند أختها ولم تذهب للكلية طوال العام حتى لا يرى أحد انتفاخ بطنها.. مظاهر الحمل على جسدها.. تزوجت من عادل قريبها وزميلنا بالكلية، أختها فقط من علم بالموضوع، حتى أمها إلى الحين لا تعرف.. حتى لا تخبر أباها.. تعلم ما بين البنت وأبيها.. شبه قطيعة منذ تركها وأمها ليعود لزوجته الأولى.
تحكي أختي وكأن إزاحة طلاسم السر ستريحني.. كأنها تخفف عني.. فلا أسمع سوى كلمات تسقط من فهما لا أستطيع ربطها ببعضها.. أتذكر ارتباك فتاتي.. هروبها السريع من أمامي.. صمتها حين سؤالي عن اسم والد الطفل..
يسألني يوسف:
- تزوجتْ هي وأنجبتْ وأنت لا تعلم؟
أجيب بابتسامة وهزة موافقة من رأسي.. ساخرا من نفسي.. يكمل يوسف:
- لكن ابنك اسمه ليس (عاشق).
أضحك.. فقد اختلف تعريفي للعشق.. واختلفت نظرتي لتفرد الأسماء..
- وجدت اسم عاشق غريبا جدا بشكل لا يطاق.. ثقيلا على الأذن.. حاولت تخفيفه قليلا فأصبح اسم ابني محب.. أليس هذا أفضل؟
يسرح يوسف وينظر لي كمن فهم:
- أفضل كثيرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق