الأحد، 5 يونيو 2011

راية الوطن

وحيدٌ على مقعد حجري بين موج من الناس لا يستقر, كعادته في ذهابه اليومي للعمل يجلس هنا ساعة أو أقل, وعند عودته يطول به المقام في صحبة النهر, يتكرر في ساعة الصبح شكل الحافلات تفرغ جوفها خليطا بشريا يتألف من كتل غير مصقولة, كائنات لا يستطيع أن يميز فيها الفروق بين الجنسين, تتغير هيئة المارين أمامه وتبرز ملامحها باختلاف ضوء النهار, الفروق الجلية بين الجنسين, عند عودته عصرا يرى الفتيات في تفجرهن اليومي نحو الأنوثة والأكمام المشمرة عن سواعد الشباب – رغم برودة الجو – مبرزين عضلاتهم المنحوتة.
تبدأ السحب في الركض ساحبة خلفها المساء ليسيطر الظلام كعادته اليومية على المكان, تتشكل أمامه لوحة الغروب, تذكّره بنهاية نهاره الخاص, نهاية أحلامه ومشاريع عمره الصغيرة التي لم تنجز, يقف مستندا على السور الحديدي ليرى النهر عن قرب.
ضحكة داعرة تأتيه من خلفه, تأخذه من نفسه, يلتفت حوله باحثا فلا يرى أحدا, يحدث نفسه : هو الليل يا أيها الرملي يدخل, فابدأ العيش .. ابدأ العيش. يشرع في السير موحِّدا بين ليله الخاص بسنينه الخمسين وليل القاهرة.
الحمامة البيضاء .. بعد أن أفزعتها أبواق السيارات..  تستريح على قبة الجامعة. تباغتها دقات الساعة فتفر مذعورة محلقة باتجاه النهر, تتذكر ما روته أمها في حكايات المساء عن الفراغ الفسيح للميدان, حيث كان يطيب لها ولرفقتها متابعة الواقفين الملتفين حول الكعكة الحجرية, ترفرف فوق كوبري الجلاء مستنشقة البراح, تفاجئها الطلقات .. تباغتها فتكسر أحد جناحيها, يزداد الألم, نزف لا تراه يحوّل وجهتها نحو الشمال ويحوّل لون الجناح الأبيض المصاب للون الدم. تنقطع الأنفاس .. فلا تجد بدا من الاستراحة قرب النهر.
اخترقت برودة المعدن عظامه, كم منعه هذا السور الحديدي من ملامسة قدميه الحافيتين مياه النيل, لمح الحمامة على الفاصل الحجري للسور تلتقط أنفاسها, يكاد يسمع نبضات قلبها المضطرب, اقترب محاذرا .. محاولا طمئنة رأسها الصغير الذي يدور يمنة ويسرة باحثا عن مأوى آمن, ثبت في مكانه حتى لمح في عينيها سكينة ما طمأنته .. شجعته .. مد كفيه لتستسلم له, تشُبع الريش بلون الدم دله على مكان الإصابة.. أدرك رغم قلة خبرته بالطيور أن بالعظام كسرا, خطت خطوات صغيرة لتقف على كفيه, رفع ذراعيه للأعلى يساعدها على التحليق من جديد, قال : دجّنتك السنون فلم تحاول مثلها أن تحلّق.
طنين منغّم يصل لأذنيه, لمكمن الذكريات برأسه, يمرق طيف الذكرى.. هتافات الطفولة منددة بالعدو أيام كان هناك عدو ملموس ظاهر للعين, هتافات تصدر عن حناجر قوية رغم براءتها الطفولية, لا تحمل معنى ثوريا وإن لم يكونوا يلحظون ذلك, يبتسم للذكرى : “موشى ديان التش التش ضرب مراته بطبق المش”!! أول هتافات يؤلفها مع أصحابه فحفظها وصدأت بعدهاالحناجر, يرتفع الطنين مع توافد الحشود محولة أسفلت الطريق إلى نهر بشري, جرفه التيار, فترك نفسه, تمتزج الكئابة المنتشرة حول رأسه برائحة يدرك أنها غازات خانقة مسيلة للدموع ولم يكن تنفسها من قبل, غيبوبة ما قبل الموت أو حيرة ترقّب الخروج للحياة, الأنفاس تلهث .. تنقطع, وتحمر العيون, يرى “محفوظ” سائرا نحو بيته بابتسامته الأليفة حاملا علم مصر, يوشوشه الخال عن فاطمة, ويشير نحو الجنود التي تحيط تدفق النهر, يخبره عن عبد الودود المرابض هناك عند الحدود, ينزلق كفه لجيبه متلمسا برفق عملة معدنية صغيرة تركها له أبوه قبل أن تخطفه النداهة وتأخذه إلى آخر الدنيا, يدوّي صفير القطار فلا ينتبه, امرأة من حروف الغيطاني ترنو إليه, تشير بعينيها أن : هو أنت.. أنت من أنتظر, يسير إليها بكل ما تحمل قدماه من رمال, بكل ما يحمل القلب من صبابة ووجد, يحتويها بذراعيه ويسند رأسه على صدرها, فيشم رائحة أمه, تلتقي العيون شارعة في البكاء, تربت كفه وتطمأنه.. تنبهه بخوف الأم ألا يلمس اللعب الملقاة بالطريق, تخبره أن طائرات العدو تلقيها بالشوارع لتفتت أجساد الأطفال, يطمئنها أنه يصنع ألعابه بيديه من أغطية الزجاجات, تتوالى لقطات الطفولة.. رسم لوجه حبيب بحبر أزرق داكن على واجهات بلوكات المساكن الشعبية, تحوطه كلمات بلون الدم : سنبكيك حتى الموت .. إلى جنة الخلد يا ناصر .. إلى جنة الخلد. يلمح جاهين فاردا ذراعيه معانقا من حوله : بالأحضان يابلادنا يا حلوة… يفتح ذراعيه باتساع المدى متأثرا بالكلمات, يصرخ بوجد: وحشتيني, تنساب الرمال من تحت إبطيه, ليعود حرا طليقا خفيفا ممتزجا بالجموع, يرى البعض تخبطه في نشوته العارمة فيحملونه مرهقا ليريح جسده على ضفة النهر, يرقد, بمحاذاة وجهه يراها, الحمامة البيضاء, بجسدها الناصع, يلمح اسوداد جناحها الآخر.. يرى علامات إطار سيارة دهسه بخوف مذعور جبان. يثقل جفناه, تقل الرؤية, يفرد ذراعيه يستحثها للمقاومة, تلمع عينا الحمامة..  تحاول الرفرفة من جديد, يرى صعودها بجسدها الأبيض وجناحيها الملونين ارتفاعا يشكل راية الوطن.. يبتسم مزهوا بانتصارها, يغمض عينيه مطمئنا … ويستريح.
3 مارس 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق