يحدث أحيانا أن يزلزل كيانه بعض كلمات أو مواقف اعتيادية, يراها الآخرون أقل وأبسط من أن يكترث لها, لكنه يفعل ويكترث. الرسالة النصية التي تسلمها وهو بين الرفض والذهول كانت إحدى تلك المسائل المؤرِقة. يخطو مصطفى على مهل, تحوطه المساجد شامخة الجدران, تاقت نفسه للقاء طارق بورشته بشارع المعز. تتشرب عيناه النقوش التي لا يمل قراءتها, بعض آيات القرآن .. أبيات الشعر القديم تمتدح حاكما أوغل زمنه في القدم, زال المُلك والحكم, وبقيت النقوش تبوح بأخبار أزمنة مرت, تواريخ الإنشاء.. تفوح رائحة الانتصارات.. والمؤامرات أحيانا.
الهدوء الرائق الرائع لفترة ما بين العصر والمغرب وتمازج أشعة الشمس مع الظلال المنكسرة على الجدران فصلاه عن عالم القاهرة متوحش الزحام. أشعل سيجارة ووقف يبحث عن مكان يريح ظهره المكدود من اهتزاز المواصلات العامة, الوقت أمامه متسع فلم يعتد لقاء طارق إلا بعد الغروب. مسجد صغير لا يحمل ما لجيرانه من مساجد وأسبلة من بهرجة الزخارف وشموخ الارتفاع.. ألقى على المكان نظرة مستطلعة, صف من المقاعد الرخامية وضع جسده على أحدها, واستسلم لإحساس الراحة. برودة الرخام تسري بجسده, برودة مدهشة لا تفسير لها في هذا الجو الحار. حميمية ما تشربتها روحه العطشى للتواصل وإن مع الحجارة. خلفه سلم صغير ضيق قليل الدرجات يدل مستوى الفسحة في نهايته على مستوى الأرض عند بدء البناء. قاوم رغبة في النزول ليستكشف البوابة الضخمة نصف المغلقة, تنفس بعمق مستمتعا بنشوة سرت في روحه, كطائر صغير حلق خياله مع همسات الذكرى منصتا لوشوشة البنائين العظام حوله. انتبه للأصوات ترتفع أمامه, بائع ومشتري يتناوشون حول سعر سلعة ما, التفت صوب المحال الأخرى, بعض الجالسين في مداخل محالهم يتجادلون حول موقف الحكم في مباراة الأمس.. لا يأبهون لتحليق عدة ذبابات حول أكواب المشروبات أمامهم.
يرتعش الهاتف بجيبه ارتعاشة قصيرة, مد يده بعدم اهتمام, بصعوبة أخرج الهاتف, كان نص الرسالة حادا موجزا آمرا "غدا مساءً يجب أن تكون بالبلد, قراءة فاتحة (نضال), احرص على ارتداء أفضل ما عندك" !! تتابُع الكلمات على الشاشة الصغيرة ولّد برأسه نبضات سريعة مقلقة, شعور بانقباض خنق صدره, لولا حبوب معالجة الضغط لانفجرت شرايينه الآن, انطلق صفير حاد من أحد مكبرات الصوت على غير موعد لأذان أو إقامة, لمح جنازة تقترب متجهة صوبه, صوب المسجد خلفه, رأى القليلين ممن كانوا يتجادلون أمامه يتركون مناوشاتهم للانضمام لها, رفع سبابته موحدا وقام كالنائم نحوهم, وجد نفسه كالمجذوب وبغير إرادة واعية يهرع للصندوق الخشبي, يثني ركبتيه قليلا ليدس كتفه تحت النعش باحتراس, يزيح أحد المشيعين برفق ليأخذ مكانه, بإيماءة سريعة يشكره الرجل ويتأخر.. يذوب في الجمع. يجد مصطفى نفسه مأخوذا برهبة الموت, هذا الجسد الذي يحملونه وقد فارقته الحياة, جسد بلا روح. تنهمر الدموع الصامتة على خديه, وتخرج التهليلات من جوفه مختنقة, يتذكر صندوق أبيه, دنو أجل بعض الأحباب .. فعلها أبوه وأنجبه بعد أن تجاوز الستين, فحكم عليه أن يكون الابن البكري للزوجة الجديدة, وأنجب بعده شقيقين وأخت, ليصبح هو الذكر الأكبر.. مَن يحمل اسم أبيه, تفصله عن البنات الكبيرات غير الشقيقات ما يزيد على الثلاثين عاما.. أخته الكبرى في عمر أمه تقريبا. تلفت حوله يريد أن يدعو الجميع للصلاة, المارة .. المشترين .. البائعين.. السائحين, ود لو يشاركه كل من بالشارع صلاة الجنازة, كلما زاد عدد المصلين زاد الرجاء بمغفرة الله, شمول رحمته. كان على يقين بأن المتوفى - الذي يحمل الآن جسده على كتفه – يحتاج الدعاء, في أمس الحاجة للغفران "ومَن منا غير ذلك" قالها في سره وهم يضعون النعش أمام القبلة. الموت .. هذا الكائن شديد الجبروت, مفرط الحنكة, لا يفر منه أحد وإن حاول, يختبر الجميع على غير توقع أو انتظار, يمس الحياة ويتركنا فلا نستطيع رواية التجربة, في أي وضع كان المتوفى حين أتى أمر الله؟ هل كان مغويا بالدنيا ومتعها الفانية, أم يلهث خلف لقيمات يعود بها آخر الليل لعياله وامرأته؟ مرّ خاطر عابث بفكره.. ماذا إن كان يطفأ شهوته, يتمتع بفاكهة الفقراء الوحيدة المتاحة .. طرد خواطر شتى لما سمع الإمام يذكرهم بكيفية صلاة الجنازة, منبها أن المتوفاة أنثى حتى لا يغفل المصلون عن الدعاء بصيغة التأنيث. لماذا اختار الجلوس أمام هذا المسجد بالذات؟ وهل كان سيدخل للصلاة إن كان سائرا ومرت الجنازة أمامه؟ ما أقصر الحياة وأشد غرابتها وإن طالت! همس متعجبا : دعوة لقراءة الفاتحة في البلد احتفالا وتبركا.. ابتهاجا بعقد القران, وها أنا الآن بجوف مسجد بقلب القاهرة أتلوالفاتحة في الصلاة على إنسانة لم تتقاطع حياتها مع حياتي إلا بعد الموت! انصرف حاملو النعش, فكر في الخروج لشراء طعام .. تذكر زيارته الأخيرة لطارق, تأخر صاحبه مما جعله ينتظر طويلا .. أن يهيم مصطفى على وجهه بالساعات خير عنده من انتظار نصف ساعة. فضّل هذه المرة أن يبقى بالمسجد, رطوبة المكان وبرودته, رائحة السجاجيد, خليط العطور المتمازج مع عرق جباه المصلين ودموعهم المستغفرة, وهل للدموع رائحة! ركن ظهره على أحد الأعمدة وبدأ في استظهار بعض الآيات, وحين استعصى عليه التذكر قام ليأتي بمصحف يقرأ فيه .. بدأ بسورة الفاتحة, واستمر منتظرا صلاة المغرب.
* * *
بعد الصلاة غادر, وحين اقترب من الشارع الذي تحتل الورشة ناصيته وجد صاحبه جالسا يمين المدخل حتى يراقب – من مكانه المختار بعناية – الشارع والعمال في آن واحد. هو طارق لم ولن تغيره السنون, جلسته المعتادة, هيئته التي يلقاه عليها دوما, جالس على كرسيه قصير الأرجل يحمل بين ركبتيه رقاقة نحاسية تتحول في دقائق إلى إحدى تحف خان الخليلي. تغوص عيناه في تفاصيل النقوش التي لم يحفرها بعد, عينان ضيقتان وأنف صغير لا يتناسب واستدارة وجهه وجسده, ترتفع يمناه بالمطرقة الصغيرة على رأس الأزميل المبطط.. لينساب السن الحاد راسما ملامح نفرتيتي جميلة الجميلات تحوطها زهرات اللوتس. يترك المطرقة ليأخذ – دون أن ينظر للكوب – رشفة من الشاي, ليعود كوعه مستندا على كرش صغير نبت من طول الجلوس. في اندماجه مع النحاس لم يشعر باقتراب مصطفى, دله الظل الساقط.. الغيمة الطويلة التي حجبت أضواء الشارع أن هناك من يقصده, رفع رأسه وهب واقفا :
- هذا ما حسبته.. مستحيل أن يكون هذا الظل لغيرك.. أهلا درش. تعانقا بشوق مّن لم يلتقيا من زمن..
قال مصطفى وهو يربت ظهر صاحبه:
- تقصد أن الدنيا أظلمت بحضوري؟
- حاشا لله.. أنت نور الدنيا. قالها و أشار بيده لصبي الورشة:
- هات كرسيا لعمك.. التفت إليه باسما :
- سأنتهي من هذه القطعة ونقوم للمقهى.
يعرف طارق ضيق صاحبه بهذه الكراسي القصيرة, وخجله من الجلوس على كرسي آخر مرتفع عن مستوى الجالسين, يصمت مصطفى متابعا حركة الأزميل, يحاول طارق أن يخرجه عن صمته بسؤال عن الصحة, لم يتعجب مصطفى من استمرار الأزميل في النقش حتى في اللحظات الكثيرة التي تترك فيها عينا طارق الطبق.. أول الأمر كان يستغرب ذلك , الآن يوقن أن لأصابع صديقه عيونا صغيرة بأطرافها تدل الأزميل على مكان الحفر. يتشاغل عن الرد بالنظر لتفاصيل شباك السبيل المواجه للورشة, العصافير المعدنية الصغيرة تزين المعدن المشغول بحرفية فائقة يرى في صديقه امتدادا لها. ما يعجبه في طارق عشقه للمهنة.. إصراره على العمل بيديه رغم امتلاء السوق بالأطباق النحاسية المصبوبة المصنعة آليا.. والأعجب استيرادها من الصين, يتذكر تعليق طارق (حتى تقليد منتجاتنا اليدوية تركناه لهم .. صارت البلد معرضا مفتوحا لمنتجاتهم).
يجد مصطفى نفسه يبوح لصاحبه بلا مقدمات :
- بعثت "فاطمة" اليوم رسالة على الهاتف تدعوني لقراءة فاتحة "نضال".
- ألف مبروك .. أتم الله لها بالخير .. وبالرفاء والبنين يا سيدي. ينظر مصطفى للأرض, يصمت برهة ثم يعاتب صديقه :
- ليس هذا وقت المزاح!
يفاجئ طارق رد الفعل, هو لم يقصد مزاحا, وحين تذكر أن نضال الأخت الكبرى التي تعدت الخمسين .. لام نفسه, فأي بنين وخلف صالح يرجو لها! أشار مقربا كفه من صدره علامة الأسف والاعتذار..
مر وقت لم يقطعه سوى توجيهات طارق لأحد عماله, أعقبها بسؤال :
- ماذا ضايقك هكذا في الرسالة؟
ارتبك العامل ظنا أن السؤال موجه له .. أسرع بالرد :
- أي رسالة؟
ضحك الثلاثة بصفاء خفف من شعور طارق بالأسف, وارتعشت ابتسامة على وجه مصطفى.
- ما شغلني أن تتم الموافقة على العريس, ويحدد موعد الفاتحة, دون علمي. أيضا تعرف مدي كرهي لكلمة (يجب) كلما قرأتها أو سمعتها يفور الدم برأسي.
أجاب طارق مبتسما :
- وكالعادة بعنادك الصبياني لا تمتثل للأمر.
- لن أعلق الآن على وصفي بالصيانية.. لكنهم امتنعوا حتى عن إعلامي ولا أقول استشارتي.
حاول طارق ألا يبدو ساخرا فرسم ابتسامة ما بين التساؤل والسخرية.. وقال كأنه يقرر واقعا :
- هل يغضبك إن قلت أنك من فعل هذا بنفسك؟ ألست من ابتعد عنهم وعن مشاركتهم أمورهم كلها؟ آثرت الوحدة هنا على البقاء معهم.. دون حتى اتصال دائم بهم.
رد مصطفى كمن ينفي عن نفسه اتهاما وإن كان أحيانا يدين نفسه به:
- أن أتجاهل تفاهاتهم وسفاسف حياتهم اليومية, القضايا السخيفة بين أخت وجارة أو قريبة, هذا جائز. لكني لم أبتعد يوما عن آلامهم وأفراحهم .. بل إن أكثر آمالهم شاركتهم تحقيقها.. ثم ألا ترى أنهم بذلك هم الذين قاموا بتنحيتي؟
خرج الكلام دفعة واحدة, وقف بعدها يهدأ من انفعاله بخطوات قصيرة جيئة وذهابا..
- ثم .. أنت تعلم أن (نضال) رأيها من رأسها ولا تهتم لمشاركة أحد.
رد طارق محاولا تلطيف الحوار:
- أنتم من عودها ذلك, ثم يا أخي ألم توجع أنت رأسي بكلامك عن الحرية واحترام فكر الآخر وقراراته.. نسيت محاضراتك لي عن المساواة؟
- مساواة نعم .. ولكن ليس في هذه القرارات المصيرية.. مصاهرة وارتباط, وامتزاج عائلات بتشابك العلاقة بين أفرادها.. لكن ….
وصمت ليكمل طارق :
- ثم إنك لم تعرف الرجل بعد.. قد يخيب الله ظنك ويكون في تلك الزيجة كل الخير.. لماذا تستبق الأحداث؟
- تلك مشكلة .. أو قل تلك مصيبة أخرى.
انتهى طارق من نقش الطبق. وأشار للصبي أن يأتيه بالحذاء إيذانا ببدء التحرك. انتهى من تعديل هندامه ووضع ذراعه حول كتفي صاحبه بصعوبة وهو يشب على قدميه :
- ألم ترغب بعد في تقليل هذا الطول المريع؟ روّق, عندي لك سهرة في مكان سينسيك اسمك والفاتحة وبلدكم كلها. ثم إنك تعطي الأمور أكثر مما تستحق, تقول "يجب" و "لم يستشيروني"!! منذ متى؟ سيجبرك الفردوس على النسيان.
- أي فردوس؟ هل عرفت مكانا نقتل فيه أنفسنا فنستريح؟
- وهل إذا فعلناها نذهب إلى الفردوس؟! أنا لست مستعدا لجهنم الآن, ما أحدثك عنه مكان عجيب. هل سمعت عن الخمر الذي لا يسكر؟
- أظنه خمر الجنة.
- نعم, ولكن في هذا الفردوس الأرضي ستجد السكر دون خمر.
الرغبة في معايشة أماكن جديدة لا تتملك مصطفى اليوم, لا الفردوس ولا جهنم باستطاعتهما أن يخرجاه مما يشعر به, لن يمحوا إحساسه بالمهانة, تمنى لو باستطاعة الإنسان أن يمحو ما يريد من أفكار وقتما يريد, ألا يصطحب المرء نفسه معه في كل مكان, "انتظريني هنا وسوف أعود بعد ساعة", يتحسس الهاتف بجيبه, وكأن الكلمات تسري لرأسه عبر أصابعه "احرص على ارتداء أفضل ما عندك" لم يخبر طارق عن هذه الجملة بالذات.. شعر أن بها من المهانة والتقليل من شأنه ما يعجز عن أن يتحمله, أن يشعر به صديقه, تشتعل حرائق صغيرة برأسه لا يستطيع إطفاءها, يسأل نفسه : منذ متى صاروا يخافون على هيئتهم الاجتماعية منه.
سار مستندا على ذراع صاحبه, لم يشغلهم التفكير في الطريق من قبل, تحفظ أقدامهم كل شبر منه, عدد الخطوات إلى مقصدهم, أين تقف وأين تمضي مسرعة. كان كعادته سارحا تاركا لقدميه تحديد الاتجاهات حتى انتبه لصاحبه يحيد عن الطريق المعتاد.. يعده بسهرة سيدمنها بل سيرجوه بعدها ألا يخرجوا من المكان. تسمرت قدما مصطفى وأشار ببرود وإن لم تخل نبرته من اعتذار: - عفوا .. لن تخرجني فراديس الدنيا من بئر الضآلة هذا, دعنا نؤجل التعرف عليه لوقت آخر.
استسلم طارق وإن لم يكف عن التفكير في المكان, مستسلما قال :
- كما تريد… دع هذا الفردوس لحينه, ستكون لنا جلسة طويلة هناك بإذن الله..
صمت طارق وعاد بصديقه باتجاه المقهى.. لكنه لم يكف عن التفكير في المكان, وجد نفسه يتحول إلى ذكرياته في هذا الشارع الذي شهد طفولته وشبابه .. قاوم رغبة في الحكي لكنه لم يستطع .. فانسابت الذكريات :
- تعرف مدى عشقي لهذا الشارع.. أحسب أن روحي قد حبست به منذ ولدت, كان الوالد – عافاه الله – يحملني على كتفيه مخترقا الزحام, أرى منبهرا البضائع المرصوصة تزيد المكان عبقا تاريخيا, لم تكن يد التطوير قد مسته بعد, أستمتع من شرفتي العلوية – كتف أبي – بجلسة أسطوات زمان بمداخل ورشهم, من يخرط حبات الكهرمان لتصير مسابح بأحجامها وأشكالها المختلفة, من يرسم بالقماش لوحات الخيامية بألوانها الصريحة الزاهية .. مناظر ريفية وأهرامات.. أسجل كل ما تراه عيناي, كان أبي لا ينزلني إلا عند وصولنا للورشة.. مرت سنوات حتى أقنعته بأني أكبر من الأطفال السائبين للهو بالشارع, تركني أجول وحدي مستنشقا روح القاهرة القديمة, لا أعرف من منا كان يشرب روح الآخر.. أنا أم الشارع! كل حجر فيه أعرف متى استقر بمكانه, من أي أرض اقتطع.. لم أترك مكانا لم أزره… كرسيا بمقهى أو غرزة إلا وجلست عليه. أتابع شيوخ الحرف, للآن أحاول أن أخرج من بين أصابعي قطعة واحدة تحمل تلك الروح, فلا أستطيع, قطعة واحدة يرى فيها من يحملها جهد وعرق هؤلاء الشيوخ, عصارة فنونهم.
المهم .. أنني وعلى غير موعد انتبهت للمكان, للمرة الأولى أراه, البوابة المنخفضة التي تجبرك على الانحناء, انحناء يحثك على توقير المكان, وجدتني أهبط.. رائحة البخور الجاوي تملأ المكان .. لا أعرف مصدرها لكنها محيطة إحاطة الهواء ذاته .. لم يكن المكان يحمل لافتة باسمه, أي علامة تدل على وجوده, وإلا كنت لاحظتها من قبل, الكراسي الخشبية بليفها القديم المجدول, وعلى ظهر كل كرسي كان الاسم محفورا "الفردوس". المدهش .. رغم أن كل ما رأيته كان مدهشا .. أن روادها رحبوا بي بالاسم, للوهلة الأولى ظننتهم نائمين, حركتهم قليلة بطيئة, يتمتعون بسكينة مذهلة, قدم لي الجرسون كرسيا كأني زبون قديم, اقترب أحدهم مترحما على أيام أبي, كانوا كأنهم بانتظاري .. أو كأنهم أصدقائي القدامى.. التقطت أذني عبارات الشوق لأبي .. الفرح بمن يحمل رائحته. قدم لي جليسي زجاجة شراب .. صفرته عجيبة ظننته في البدء مشروب الحلبة أو الينسون .. لكني لم أجد طعمهما به.. ونفى عقلي تماما أن يكون نوعا من الخمور, إشراقة وجوههم وبعض علامات السجود على الجباه أكدت النفي, لم أرهق عقلي كثيرا في البحث عن ماهيته.. ودون أن أن أسأل رحت أفرغ الأكواب بجوفي. لم أتأكد حتى الآن هل كانوا فعلا من رأيت أم أنه ذلك المشروب فعل برأسي ما فعل. في الركن يجلس شيخ شديد الشبه بتوفيق الحكيم يلبس جلبابا أبيض, قلت : إنه المشروب لكن حين أمعنت النظر فيمن يجالسه رأيت عبد الناصر في هيئة شيخ أزهري معمم تتدلى من يده مسبحة تكاد تلمس الأرض. تظهر عمامته علامات المشيب الشهيرة على فوديه, أسرعت خارجا باحثا عن يقين هل أحلم أم سكرت؟ وجدتني ما أزال بالشارع.. رأيت الورش والمعارض وأصدقائي أصحاب الدكاكين, دخلت ثانية ولم أجلس.. هذه المرة كان الجميع يتحلقون في دائرة كبيرة يتهامسون بود, وقف يوسف إدريس ببذلته الرمادية اللامعة وشعره الأبيض ليصب كوبا للعقاد.. لن أطيل عليك.. كل من رأيتهم كان إما كاتبا أو مغنيا شهيرا.. حتى أن المازني أعلمني أن الوالد كان لا يبرح هذا المجلس قبل تعبه, متى وكيف لا أدري, كنت دائما عند نهاية جولتي وأنا صغير أعود لأجد أبي جالسا في مكانه منكبا على العمل .. كنا نعود معا للبيت فلا أراه يخرج ثانية.
انتبه طارق من ذكرياته على صوت مصطفى ضاحكا :
- أخذتني حكايتك بعيدا عن الدنيا والشارع مع أنك تحكي عن الشارع, ولكن ألست معي ان هذا المشروب هو نوع رديء من الخمور؟ لم أكن أعرف أن رأسك خفيف لهذا الحد.
- لا والله .. لم يكن خمرا .. أنا على يقين من ذلك, لهذا أردتك معي اليوم شريطة أن يمتنع أحدنا عن الشرب لنرى ماذا سيحدث.
رد مصطفي وهو يهرش جبينه :
- لا أعرف هل سأسافر غدا أم لا .. ولكن إن لم أفعل سيكون لنا لقاء هنا.
- اسمع يا مصطفى.. هي في كل الأحوال أختك. ومن قبل ومن بعد من يحمل قربة مخرومة تخر على رأسه, لذا يجب أن تسافر وتحضر الفاتحة وسطهم.. أنت رجل العائلة يا أخي.
وجدت الكلمات طريقا ممهدا برأس مصطفى .. فليسافر. ابتسم بمرارة لصدى كلمات صديقه الأخيرة "مهما يكن .. أنت رجل العائلة".
* * *
وكأن ما لاقاه طوال ساعات اليوم لم يكن كافيا .. بدأ الصداع خفيفا في مؤخرة الرأس, مع صعود كل درجة سلم يزداد الدق عنفا. لمح باب الشقة المقابلة يغلق بلطف قبل أن يصل لشقته, الصداع وتفكيره في نهاره.. الجنازة والفردوس وطارق .. وقف طويلا يجرب كل المفاتيح قبل أن يطاوعه الباب وينفتح.
بدأت مطرقة الصداع عملها الرتيب, دقات أشبه بدقات القلب تحطم رأسه, وكأن قلبا ضخما سكنها, لم تفلح المسكنات وفنجان القهوة في فعل شيء.. يأتي الألم الرهيب من خلف الرأس ليتجمع بمنتصف الجبهة, أطفأ سيجارته فخف الألم قليلا ليعود بعدها أشد.. تذكر آخر مرة عانى فيها من هذا الألم الغريب عليه .. زاره بعد تجربة فاشلة عاشها قبل أن يرتبط بزينب..
ساعتان كاملتان من الصداع مع عدم الفهم. جارته التي تحاول اصطياد لحظات تكبل فيها عقله.. تقنعه بفيض أنوثتها وفي الوقت ذاته عفتها, محاولةً اقتناص لحظة يعترف لها فيها بعشقه.. احتمالية تجهيز البيت لتصبح هي سيدته .. احتضنته بعنف طالبة أن يعترف في أذنها بحبه.. تعتصره بقوة وترتمى على الكنبة وهي تحضنه.. فيقع فوقها بكامل ملابسهما.. يرى سرعة دوران نني العين, تلاحق أنفاسها تلفح وجهه, وفي قمة انهماكها تهمس بلوعة أن يتركها.. تقوم باكية.. لا يستوعب عقلها ما فعلته منذ لحظة .. تقترب من الباب مزمعة الانصراف .. يهدأها بكلمات قليلة .. تطول وقفتها أمام الباب دون أن تمد يدا لتفتحه .. يخمن أنها تطلب وداعا صغيرا.. يفكر في قبلة حانية خالية من الرغبة .. يحتضنها فتتعلق به بشبق عاصف, يتعجب من قوة ذراعيها.. ليسقطا ثانية في نفس المكان بنفس الوضع السابق, تعاود كرها وفرها, يد تحوطه ويد تدفعه بعيدا.. شفاه تهمس وتصرخ بكلمات متناقضة.. "أحبك" .. "اتركني" لتعود لتقف باكية…. كان هذا أقصي وأقسى صداع مر بحياته. لم يحاول حتى أن يبدل ملابسه.. ارتمى على السرير وترك نفسه يغوص في سرداب أسود عميق.
* * *
لم يختبر إحساسا بالضآلة كما حدث بالأمس. استيقظ لاهثًا ممسكًا رقبته, شعر بفقرات عنقه تتحطم.. فتح عينيه بصعوبة واعتدل على ظهره ليهدأ تنفسه قليلا.. جو غرائبي يغلف تفكيره.. حاول أن يتذكر تفاصيل الحلم – الكابوس – فلم يتذكر شيئا, رائحة الحلم بأنفه رغم هروب التفاصيل.. مد يدا متكاسلة إلى الهاتف.. الأرقام الصغيرة على الشاشة تعلن الثانية عشر ظهرا. لم ينوِ النوم حتى هذه الساعة.. ضاع اليوم ولن يذهب لعمله.. كان قراره قبل النوم أن يذهب ليستأذن في الخروج مبكرا ساعة. يوم غياب جديد, وتأنيب من المدير قادم لا محالة.. رغم توقع التأنيب سرّه عدم الوقوف أمام مديره طالبا الإذن بالانصراف المبكر..
مرّ اسم زينب برأسه, اسمها فقط يبعث وهجا منيرا برأسه.. تلتئم انكسارات روحه, هكذا سيستطيع أن يراها اليوم عند خروجها من العمل. قام ليعد فنجان القهوة الصباحي.. قفزت تفاصيل الحلم كلها فجأة .. أسرع يصب القهوة. فتح صفحة جديدة في الأجندة الحمراء التي خصصها للأحلام منذ قومه القاهرة.. في رأس الصفحة كتب "الحلم 67" وبخط أصغر على السطر الثاني "15 مايو 2011 ".
"بدأ الحلم بالظلام.. عينان كبيرتان تلمعان وسط الظلمة.. سواد مقبض يسيطر على جو الحلم.. تشع العينان ويزداد بريقهما, فيظهر الوجه.. وجه بني لثعلب بلحية مدببة.. يحفر بقدميه الأماميتين الأرض بجنون .. تتسع الحفرة تحت السلك الفاصل بين الثعلب وذلك الكائن الأبيض بالداخل.. تتضح الرؤية فأرى الكتلة البيضاء تتشكل في هيئة دجاجات فزعة.. تتقهقر مذعورة للخلف فتلتصق مؤخراتها بالحائط.. ترقد الدجاجات ببلاهة منتظرة مصيرها المحتوم دون حركة أو صوت. تغلق عيونها باستسلام, يتأهب الثعلب للهجوم.. يفرد ساقيه الأماميتين ملصقا صدره بالتراب, ويبدأ التسلل.. ترتفع الضجة بالخلف.. لم أر نفسي بالحلم حتى الآن وإن كنت أشعر بالتهديد.. تقترب مشاعل متراقصة اللهب.. تهتز ملامح حامليها مع اهتزازها.. تتحول فجأة وجوههم إلى الشكل المثلث.. ترتفع الآذان الصغيرة المدببة وتنبت اللحى, تتداخل المثلثات وتزداد لزوجة الظلمة, يعم السواد. أعود لأرى المثلثات تتجمع وجها واحدا تلمع عيناه بالظلام. ليعاود الحلم بدايته من جديد.. عدد لا نهائي من التكرارات تمرق بسرعة البرق.. وفي كل مرة أرى الرعب نفسه في عيون الدجاج, دأب الثعلب في الحفر.. لكن بشاعة وجهه تزداد مع كل بداية.. تفوح من أنيابه رائحة نتنة.. تكبر الأنياب وتسيل منها الرائحة فأعجز عن الرؤية.. تخنق الرائحة روحي.. يرتفع صرير الفكين وينفرجا باتساع, تغوص رأسي في الحلق العفن.. وأسمع تكسر عظام رقبتي".
انتهى مصطفى من الكتابة ليجد قهوته باردة.. يشربها دفعة واحدة ويعود للكتابة.
تعليق على الحلم :
- لم أر زوج أختي المرتقب رغم شعوري اليقيني بوجوده بالحلم.
- لا أعرف على وجه التحديد إن كنت أنا إحدى تلك الدجاجات لشعوري الشديد بالتهديد وتكسر رقبتي, أم كنت مراقبا ليس إلا؟.
وكيف تحول صيادو الثعالب إلى ثعلب كبير.
قام ليتصل بزينب.. لينبهها أن تنتظره أمام مقر عملها, رنين متواصل على الطرف الآخر.. عاود الاتصال ثانية دون إجابة, حدّث صورتها بخياله: "أين أنت يا زينب؟ لماذا لا يحمل هذا الهاتف سوى الكلمات الصادمة؟". تذكر كلمات الأمس عن رجل العائلة فقام متحمسا. ملابسه متناثرة مبعثرة بإهمال على أرض الطرقة المؤدية للحمام, ترك جسده لتدفق الماء, ما يشغله الآن الاتصال بها.. لا يضمن المواصلات التي ستحمله إليها.. قد يتأخر عن موعد خروجها فتذهب للبيت دون لقائه.
من أين له بماء غير المنساب على جسده.. ماء بمواصفات خاصة تخترق الروح وتغسل ما بها من مرارة, تمسح ما علق بها من غبار الضآلة وتراكمات الإحباط واليأس. ابتسم لوجهه بالمرآة, "ماذا إن تركت هذا كله وذهبت لفردوس طارق, السكر دون خمر" مسح نقطة دم متجمعة على ذقنه إثر الحلاقة وخرج عاريا للدولاب, بذلة المناسبات الداكنة.
أعجبه الشعور بالعري فلم يقاوم التسكع بالبيت دون ملابس.. أخّر ارتداءها حتى ينتهي من كي القميص.. عادت صورة زينب فأسرع يرتدي ملابسه.. خجل أن ترد عليه هكذا دون ملابس, وإن كانت لن تراه.
- أهلا زينب. لحظة صمت .. وانساب صوتها ببحته المميزة التي يعشقها :
- أهلا مصطفى.. لم أستطع الرد من قبل .. كنت بعيدة عن الهاتف.
لمس بصوتها مسحة اختناق.. قبل أن يسألها بادرته :
- هل سأراك اليوم؟
لم يتوقع السؤال .. هو من أراد أن يفاجئها بحضوره. متى علمت بسفره وهو نفسه لم يمر على معرفته بالسفر سوى نصف يوم؟
شرحت له في عجالة كيف أن أباها – عمه – استنكر ما يحدث.. كيف نام كمدا من أفعال نضال .. ودون علمه .. رجته أن يزور عمه ليشرح له ما حدث ويشعره أنه لا يزال كبير العائلة.
حتى زينب, ملاذه الأول والأخير, تنتابه الحيرة أمام كلماتها, هل يخبرها أم يصمت ويواج غضب عمه؟ "آه يا عم لو تدرك أننا في الهم (كبار العائلة)".
- سأحاول قدر استطاعتي اللحاق بموعد خروجك.. انتظريني.
* * *
تحول الطريق المترب في مدخل البلدة إلى أسفلت لامع.. بعض العمارات متعددة الطوابق شاهقة الارتفاع نبتت على جانبي الطريق.. حتى البنايات القديمة تلونت بدهان كريمي اللون لتتناسب والجو العام للطريق, أشجار الظل ونباتات الزينة تتوسط الرصيف المطلي حديثا.. لكن شيء ما يجثم على الأنفاس, شيء رآه متمثلا في الشرود المغلف للوجوه, الملامح تمتزج بأحاسيس الكآبة الرتيبة .. تبدلت الأبنية ولم تتغير وجوه قاطنيها.
كان يمني نفسه بركوب عربة حنطور من الموقف, تخيل نفسه ممسكا يدها يساعدها على الصعود.. يدق قلبه مع دقات حوافر الخيل, لما لم يجد استسلم لأول سيارة أجرة وقفت جواره.. استفسر من السائق عن غياب عربات الحنطور, علم أنها تقف الآن بالقرب من الكورنيش, صارت من مستلزمات السياحة, حناطير تراثية تؤجر بالدقائق للعشاق.. يختفون داخلها بعيدا عن الأعين المتلصصة.
سرحت عيناه مع لون البنايات الجديد, امتدح روح التجميل التي طالت البلدة أخيرا.. منتظرا من السائق الزهو بما حدث.. صدمه السائق:
- وهل تصدق؟ أنت بالطبع تعلم ما وراء هذا
- وهل للنظافة تفسير آخر غير أنها نظافة؟
قهقه الرجل .. ترك عجلة القيادة وضرب كفا بكف:
- هي ميزانيات يجب أن تصرف, وعادة لا يجدون ما يفعلون سوى دهان المدهون ورصف المرصوف.. يقتسمون الأموال مع المقاولين ويلطخون الدنيا بهذا الطلاء.. فتنتفخ كروشهم.
- وليكن.. هي خطوة على الطريق, وفعل شيء أفضل من عدمه.
ازداد تعجب السائق من منطق مصطفى.. سأله :
- من أين جئت؟
- من القاهرة
- بالتأكيد لا يوجد هناك طوابير عيش أو أزمات معيشية.
ابتسم مصطفى ليخفي مرارته وسأل السائق فجأة:
- هل ما زالت النساء هنا تربي الدجاج بالمنازل؟ انهمك السائق في الإجابة .. إيضاح ما آل إليه الحال.. سرح مصطفى مع الطريق ولم يكن ينتظر أي إجابات.
* * *
قال لزينب :
- توقفي عن لومي, تأنيبي, لست من يستحق اللوم؟
لاحظ انفعاله وحدة لهجته معها فداعبها مبتسما :
- لومك يدمر ما بيننا, إن لم تتوقفي سأهجرك بلا عودة.
- إن هجرتني سأمحوك من عقلي وقلبي للأبد.
- وهل تقدرين؟
- وهل ستفعل؟
أوضح لها الخطوات التي اتخذها في سبيل بناء عشهما, إعادة تهيئة البيت ليتناسب مع حلمها عن بيت الزوجية, إسراعه بالتجهيز ليعجل الزفاف. ابتسمت بعشق:
- إلحق عمك.. قبل أن يصل الموضوع معه لطريق مسدود, قبل أن يركب رأسه ويفعلها.
- يفعل ماذا؟ وكعادتها معه لا تتم جملتها .. وعليه – كما تعود أيضا – أن يستنتج ما أرادت أن تقول.
أطفأ سيجارتين قبل أن يتم قهوته, هو يوم القهوة الباردة, رداءة البن واتساخ المفرش عكرا مزاجه .. بدا عدم الاهتمام بالنظافة واضحا في كل تفصيلات المكان, تغير الحال خلال السنوات الأخيرة..
اختفت الحديقة من أمام الكازينو, كانت المتنفس الوحيد للعيون قبل أن تحتلها مجموعة ترابيزات لمطعم كشري مجاور, حلت زجاجات الشطة والدقة مكان الشجيرات الصغيرة, وعلى الأرض تناثرت أغطية بيضاء لعب الأكل, صدمه التناقض بين مدخل المدينة وأطرافها, هنا اعتاد أن يقابل زينب, يتذكر بداياتهما معا كعاشقين, أول لقاء, لمسة يد, تصريح بالحب.. يعدها خيانة للمكان والذكرى إن ذهب معها لأحد الأماكن الجديدة ذات الأسماء الأجنبية, والتي امتلأت بها البلد.
أراد أن يسأل الجرسون العجوز عما حدث.. لكنه يتوقع الإجابة.. لم يعد المكان يجذب سوى أمثالهم من الباحثين عن الذكريات.
حين ودعها قرر عدم العودة لهذا المكان أبدا, كذلك عدم الذهاب لمكان آخر جديد. تركها واستسلم لفكرة السفر دون الذهاب للبيت, هل حقا ينتظرونه؟ فليقولوا عنه ما يريدوا لكنه يرفض ما اتفقوا عليه, فليتحملوا العواقب وحدهم.
قضى ساعتين متجولا وحده بمحاذاة النيل, عادته القديمة التي لم يمارسها منذ سكنه القاهرة, النيل هنا يملك وجها آخر.. مذاقا بكرا.. رائحة هواء طازج لا يملكها نيل القاهرة. سند رأسه على زجاج الشباك, السيارة تنطلق باتجاه الرجوع.. العودة لبيته بالقاهرة, فكر فيما سيقوله لهم غدا عبر الهاتف إن فكروا في الاتصال به أو لومه, هل يعتذر أم يجاهر برفض الزيجة؟ بالتأكيد ما دام في الأمر لوم فسوف يتصلون!
قرر أن يتصل بعمه معتذرا عن عدم ذهابه وعن كل ما يحدث.. طالبا منه تحديد موعد قريب للزفاف وإن لم تكتمل تجهيزات بيت الزوجية؟
تتابع أعمدة الإنارة.. وأشجار الطريق في جريها السريع أمامه سرّبا له إحساسا بالنعاس .. قفز الحلم إلى رأسه فأغمض عينيه وراح يتخيل نهاية أخرى …
"بعد أن تتهشم رءوس ورقاب بعض الدجاجات, تتحول الطيور المتبقية إلى نسور ضخمة.. ترفرف بأجنحتها الكبيرة فترتفع حاملة العش, منطلقة في البراح الفسيح, تجمع شتاتها وتنقض بمناقيرها الحادة على وجوه حاملي المشاعل, تفقأ عيونهم قبل أن يتحولوا إلى ثعالب, تسيل الدماء على الوجوه, يحاول كل منهم في يأس التقاط عينيه ليضعهما بوجهه, فتسقط المشاعل من الأيدي, ويمتلأ الجو برائحة الشواء".
الهدوء الرائق الرائع لفترة ما بين العصر والمغرب وتمازج أشعة الشمس مع الظلال المنكسرة على الجدران فصلاه عن عالم القاهرة متوحش الزحام. أشعل سيجارة ووقف يبحث عن مكان يريح ظهره المكدود من اهتزاز المواصلات العامة, الوقت أمامه متسع فلم يعتد لقاء طارق إلا بعد الغروب. مسجد صغير لا يحمل ما لجيرانه من مساجد وأسبلة من بهرجة الزخارف وشموخ الارتفاع.. ألقى على المكان نظرة مستطلعة, صف من المقاعد الرخامية وضع جسده على أحدها, واستسلم لإحساس الراحة. برودة الرخام تسري بجسده, برودة مدهشة لا تفسير لها في هذا الجو الحار. حميمية ما تشربتها روحه العطشى للتواصل وإن مع الحجارة. خلفه سلم صغير ضيق قليل الدرجات يدل مستوى الفسحة في نهايته على مستوى الأرض عند بدء البناء. قاوم رغبة في النزول ليستكشف البوابة الضخمة نصف المغلقة, تنفس بعمق مستمتعا بنشوة سرت في روحه, كطائر صغير حلق خياله مع همسات الذكرى منصتا لوشوشة البنائين العظام حوله. انتبه للأصوات ترتفع أمامه, بائع ومشتري يتناوشون حول سعر سلعة ما, التفت صوب المحال الأخرى, بعض الجالسين في مداخل محالهم يتجادلون حول موقف الحكم في مباراة الأمس.. لا يأبهون لتحليق عدة ذبابات حول أكواب المشروبات أمامهم.
يرتعش الهاتف بجيبه ارتعاشة قصيرة, مد يده بعدم اهتمام, بصعوبة أخرج الهاتف, كان نص الرسالة حادا موجزا آمرا "غدا مساءً يجب أن تكون بالبلد, قراءة فاتحة (نضال), احرص على ارتداء أفضل ما عندك" !! تتابُع الكلمات على الشاشة الصغيرة ولّد برأسه نبضات سريعة مقلقة, شعور بانقباض خنق صدره, لولا حبوب معالجة الضغط لانفجرت شرايينه الآن, انطلق صفير حاد من أحد مكبرات الصوت على غير موعد لأذان أو إقامة, لمح جنازة تقترب متجهة صوبه, صوب المسجد خلفه, رأى القليلين ممن كانوا يتجادلون أمامه يتركون مناوشاتهم للانضمام لها, رفع سبابته موحدا وقام كالنائم نحوهم, وجد نفسه كالمجذوب وبغير إرادة واعية يهرع للصندوق الخشبي, يثني ركبتيه قليلا ليدس كتفه تحت النعش باحتراس, يزيح أحد المشيعين برفق ليأخذ مكانه, بإيماءة سريعة يشكره الرجل ويتأخر.. يذوب في الجمع. يجد مصطفى نفسه مأخوذا برهبة الموت, هذا الجسد الذي يحملونه وقد فارقته الحياة, جسد بلا روح. تنهمر الدموع الصامتة على خديه, وتخرج التهليلات من جوفه مختنقة, يتذكر صندوق أبيه, دنو أجل بعض الأحباب .. فعلها أبوه وأنجبه بعد أن تجاوز الستين, فحكم عليه أن يكون الابن البكري للزوجة الجديدة, وأنجب بعده شقيقين وأخت, ليصبح هو الذكر الأكبر.. مَن يحمل اسم أبيه, تفصله عن البنات الكبيرات غير الشقيقات ما يزيد على الثلاثين عاما.. أخته الكبرى في عمر أمه تقريبا. تلفت حوله يريد أن يدعو الجميع للصلاة, المارة .. المشترين .. البائعين.. السائحين, ود لو يشاركه كل من بالشارع صلاة الجنازة, كلما زاد عدد المصلين زاد الرجاء بمغفرة الله, شمول رحمته. كان على يقين بأن المتوفى - الذي يحمل الآن جسده على كتفه – يحتاج الدعاء, في أمس الحاجة للغفران "ومَن منا غير ذلك" قالها في سره وهم يضعون النعش أمام القبلة. الموت .. هذا الكائن شديد الجبروت, مفرط الحنكة, لا يفر منه أحد وإن حاول, يختبر الجميع على غير توقع أو انتظار, يمس الحياة ويتركنا فلا نستطيع رواية التجربة, في أي وضع كان المتوفى حين أتى أمر الله؟ هل كان مغويا بالدنيا ومتعها الفانية, أم يلهث خلف لقيمات يعود بها آخر الليل لعياله وامرأته؟ مرّ خاطر عابث بفكره.. ماذا إن كان يطفأ شهوته, يتمتع بفاكهة الفقراء الوحيدة المتاحة .. طرد خواطر شتى لما سمع الإمام يذكرهم بكيفية صلاة الجنازة, منبها أن المتوفاة أنثى حتى لا يغفل المصلون عن الدعاء بصيغة التأنيث. لماذا اختار الجلوس أمام هذا المسجد بالذات؟ وهل كان سيدخل للصلاة إن كان سائرا ومرت الجنازة أمامه؟ ما أقصر الحياة وأشد غرابتها وإن طالت! همس متعجبا : دعوة لقراءة الفاتحة في البلد احتفالا وتبركا.. ابتهاجا بعقد القران, وها أنا الآن بجوف مسجد بقلب القاهرة أتلوالفاتحة في الصلاة على إنسانة لم تتقاطع حياتها مع حياتي إلا بعد الموت! انصرف حاملو النعش, فكر في الخروج لشراء طعام .. تذكر زيارته الأخيرة لطارق, تأخر صاحبه مما جعله ينتظر طويلا .. أن يهيم مصطفى على وجهه بالساعات خير عنده من انتظار نصف ساعة. فضّل هذه المرة أن يبقى بالمسجد, رطوبة المكان وبرودته, رائحة السجاجيد, خليط العطور المتمازج مع عرق جباه المصلين ودموعهم المستغفرة, وهل للدموع رائحة! ركن ظهره على أحد الأعمدة وبدأ في استظهار بعض الآيات, وحين استعصى عليه التذكر قام ليأتي بمصحف يقرأ فيه .. بدأ بسورة الفاتحة, واستمر منتظرا صلاة المغرب.
* * *
بعد الصلاة غادر, وحين اقترب من الشارع الذي تحتل الورشة ناصيته وجد صاحبه جالسا يمين المدخل حتى يراقب – من مكانه المختار بعناية – الشارع والعمال في آن واحد. هو طارق لم ولن تغيره السنون, جلسته المعتادة, هيئته التي يلقاه عليها دوما, جالس على كرسيه قصير الأرجل يحمل بين ركبتيه رقاقة نحاسية تتحول في دقائق إلى إحدى تحف خان الخليلي. تغوص عيناه في تفاصيل النقوش التي لم يحفرها بعد, عينان ضيقتان وأنف صغير لا يتناسب واستدارة وجهه وجسده, ترتفع يمناه بالمطرقة الصغيرة على رأس الأزميل المبطط.. لينساب السن الحاد راسما ملامح نفرتيتي جميلة الجميلات تحوطها زهرات اللوتس. يترك المطرقة ليأخذ – دون أن ينظر للكوب – رشفة من الشاي, ليعود كوعه مستندا على كرش صغير نبت من طول الجلوس. في اندماجه مع النحاس لم يشعر باقتراب مصطفى, دله الظل الساقط.. الغيمة الطويلة التي حجبت أضواء الشارع أن هناك من يقصده, رفع رأسه وهب واقفا :
- هذا ما حسبته.. مستحيل أن يكون هذا الظل لغيرك.. أهلا درش. تعانقا بشوق مّن لم يلتقيا من زمن..
قال مصطفى وهو يربت ظهر صاحبه:
- تقصد أن الدنيا أظلمت بحضوري؟
- حاشا لله.. أنت نور الدنيا. قالها و أشار بيده لصبي الورشة:
- هات كرسيا لعمك.. التفت إليه باسما :
- سأنتهي من هذه القطعة ونقوم للمقهى.
يعرف طارق ضيق صاحبه بهذه الكراسي القصيرة, وخجله من الجلوس على كرسي آخر مرتفع عن مستوى الجالسين, يصمت مصطفى متابعا حركة الأزميل, يحاول طارق أن يخرجه عن صمته بسؤال عن الصحة, لم يتعجب مصطفى من استمرار الأزميل في النقش حتى في اللحظات الكثيرة التي تترك فيها عينا طارق الطبق.. أول الأمر كان يستغرب ذلك , الآن يوقن أن لأصابع صديقه عيونا صغيرة بأطرافها تدل الأزميل على مكان الحفر. يتشاغل عن الرد بالنظر لتفاصيل شباك السبيل المواجه للورشة, العصافير المعدنية الصغيرة تزين المعدن المشغول بحرفية فائقة يرى في صديقه امتدادا لها. ما يعجبه في طارق عشقه للمهنة.. إصراره على العمل بيديه رغم امتلاء السوق بالأطباق النحاسية المصبوبة المصنعة آليا.. والأعجب استيرادها من الصين, يتذكر تعليق طارق (حتى تقليد منتجاتنا اليدوية تركناه لهم .. صارت البلد معرضا مفتوحا لمنتجاتهم).
يجد مصطفى نفسه يبوح لصاحبه بلا مقدمات :
- بعثت "فاطمة" اليوم رسالة على الهاتف تدعوني لقراءة فاتحة "نضال".
- ألف مبروك .. أتم الله لها بالخير .. وبالرفاء والبنين يا سيدي. ينظر مصطفى للأرض, يصمت برهة ثم يعاتب صديقه :
- ليس هذا وقت المزاح!
يفاجئ طارق رد الفعل, هو لم يقصد مزاحا, وحين تذكر أن نضال الأخت الكبرى التي تعدت الخمسين .. لام نفسه, فأي بنين وخلف صالح يرجو لها! أشار مقربا كفه من صدره علامة الأسف والاعتذار..
مر وقت لم يقطعه سوى توجيهات طارق لأحد عماله, أعقبها بسؤال :
- ماذا ضايقك هكذا في الرسالة؟
ارتبك العامل ظنا أن السؤال موجه له .. أسرع بالرد :
- أي رسالة؟
ضحك الثلاثة بصفاء خفف من شعور طارق بالأسف, وارتعشت ابتسامة على وجه مصطفى.
- ما شغلني أن تتم الموافقة على العريس, ويحدد موعد الفاتحة, دون علمي. أيضا تعرف مدي كرهي لكلمة (يجب) كلما قرأتها أو سمعتها يفور الدم برأسي.
أجاب طارق مبتسما :
- وكالعادة بعنادك الصبياني لا تمتثل للأمر.
- لن أعلق الآن على وصفي بالصيانية.. لكنهم امتنعوا حتى عن إعلامي ولا أقول استشارتي.
حاول طارق ألا يبدو ساخرا فرسم ابتسامة ما بين التساؤل والسخرية.. وقال كأنه يقرر واقعا :
- هل يغضبك إن قلت أنك من فعل هذا بنفسك؟ ألست من ابتعد عنهم وعن مشاركتهم أمورهم كلها؟ آثرت الوحدة هنا على البقاء معهم.. دون حتى اتصال دائم بهم.
رد مصطفى كمن ينفي عن نفسه اتهاما وإن كان أحيانا يدين نفسه به:
- أن أتجاهل تفاهاتهم وسفاسف حياتهم اليومية, القضايا السخيفة بين أخت وجارة أو قريبة, هذا جائز. لكني لم أبتعد يوما عن آلامهم وأفراحهم .. بل إن أكثر آمالهم شاركتهم تحقيقها.. ثم ألا ترى أنهم بذلك هم الذين قاموا بتنحيتي؟
خرج الكلام دفعة واحدة, وقف بعدها يهدأ من انفعاله بخطوات قصيرة جيئة وذهابا..
- ثم .. أنت تعلم أن (نضال) رأيها من رأسها ولا تهتم لمشاركة أحد.
رد طارق محاولا تلطيف الحوار:
- أنتم من عودها ذلك, ثم يا أخي ألم توجع أنت رأسي بكلامك عن الحرية واحترام فكر الآخر وقراراته.. نسيت محاضراتك لي عن المساواة؟
- مساواة نعم .. ولكن ليس في هذه القرارات المصيرية.. مصاهرة وارتباط, وامتزاج عائلات بتشابك العلاقة بين أفرادها.. لكن ….
وصمت ليكمل طارق :
- ثم إنك لم تعرف الرجل بعد.. قد يخيب الله ظنك ويكون في تلك الزيجة كل الخير.. لماذا تستبق الأحداث؟
- تلك مشكلة .. أو قل تلك مصيبة أخرى.
انتهى طارق من نقش الطبق. وأشار للصبي أن يأتيه بالحذاء إيذانا ببدء التحرك. انتهى من تعديل هندامه ووضع ذراعه حول كتفي صاحبه بصعوبة وهو يشب على قدميه :
- ألم ترغب بعد في تقليل هذا الطول المريع؟ روّق, عندي لك سهرة في مكان سينسيك اسمك والفاتحة وبلدكم كلها. ثم إنك تعطي الأمور أكثر مما تستحق, تقول "يجب" و "لم يستشيروني"!! منذ متى؟ سيجبرك الفردوس على النسيان.
- أي فردوس؟ هل عرفت مكانا نقتل فيه أنفسنا فنستريح؟
- وهل إذا فعلناها نذهب إلى الفردوس؟! أنا لست مستعدا لجهنم الآن, ما أحدثك عنه مكان عجيب. هل سمعت عن الخمر الذي لا يسكر؟
- أظنه خمر الجنة.
- نعم, ولكن في هذا الفردوس الأرضي ستجد السكر دون خمر.
الرغبة في معايشة أماكن جديدة لا تتملك مصطفى اليوم, لا الفردوس ولا جهنم باستطاعتهما أن يخرجاه مما يشعر به, لن يمحوا إحساسه بالمهانة, تمنى لو باستطاعة الإنسان أن يمحو ما يريد من أفكار وقتما يريد, ألا يصطحب المرء نفسه معه في كل مكان, "انتظريني هنا وسوف أعود بعد ساعة", يتحسس الهاتف بجيبه, وكأن الكلمات تسري لرأسه عبر أصابعه "احرص على ارتداء أفضل ما عندك" لم يخبر طارق عن هذه الجملة بالذات.. شعر أن بها من المهانة والتقليل من شأنه ما يعجز عن أن يتحمله, أن يشعر به صديقه, تشتعل حرائق صغيرة برأسه لا يستطيع إطفاءها, يسأل نفسه : منذ متى صاروا يخافون على هيئتهم الاجتماعية منه.
سار مستندا على ذراع صاحبه, لم يشغلهم التفكير في الطريق من قبل, تحفظ أقدامهم كل شبر منه, عدد الخطوات إلى مقصدهم, أين تقف وأين تمضي مسرعة. كان كعادته سارحا تاركا لقدميه تحديد الاتجاهات حتى انتبه لصاحبه يحيد عن الطريق المعتاد.. يعده بسهرة سيدمنها بل سيرجوه بعدها ألا يخرجوا من المكان. تسمرت قدما مصطفى وأشار ببرود وإن لم تخل نبرته من اعتذار: - عفوا .. لن تخرجني فراديس الدنيا من بئر الضآلة هذا, دعنا نؤجل التعرف عليه لوقت آخر.
استسلم طارق وإن لم يكف عن التفكير في المكان, مستسلما قال :
- كما تريد… دع هذا الفردوس لحينه, ستكون لنا جلسة طويلة هناك بإذن الله..
صمت طارق وعاد بصديقه باتجاه المقهى.. لكنه لم يكف عن التفكير في المكان, وجد نفسه يتحول إلى ذكرياته في هذا الشارع الذي شهد طفولته وشبابه .. قاوم رغبة في الحكي لكنه لم يستطع .. فانسابت الذكريات :
- تعرف مدى عشقي لهذا الشارع.. أحسب أن روحي قد حبست به منذ ولدت, كان الوالد – عافاه الله – يحملني على كتفيه مخترقا الزحام, أرى منبهرا البضائع المرصوصة تزيد المكان عبقا تاريخيا, لم تكن يد التطوير قد مسته بعد, أستمتع من شرفتي العلوية – كتف أبي – بجلسة أسطوات زمان بمداخل ورشهم, من يخرط حبات الكهرمان لتصير مسابح بأحجامها وأشكالها المختلفة, من يرسم بالقماش لوحات الخيامية بألوانها الصريحة الزاهية .. مناظر ريفية وأهرامات.. أسجل كل ما تراه عيناي, كان أبي لا ينزلني إلا عند وصولنا للورشة.. مرت سنوات حتى أقنعته بأني أكبر من الأطفال السائبين للهو بالشارع, تركني أجول وحدي مستنشقا روح القاهرة القديمة, لا أعرف من منا كان يشرب روح الآخر.. أنا أم الشارع! كل حجر فيه أعرف متى استقر بمكانه, من أي أرض اقتطع.. لم أترك مكانا لم أزره… كرسيا بمقهى أو غرزة إلا وجلست عليه. أتابع شيوخ الحرف, للآن أحاول أن أخرج من بين أصابعي قطعة واحدة تحمل تلك الروح, فلا أستطيع, قطعة واحدة يرى فيها من يحملها جهد وعرق هؤلاء الشيوخ, عصارة فنونهم.
المهم .. أنني وعلى غير موعد انتبهت للمكان, للمرة الأولى أراه, البوابة المنخفضة التي تجبرك على الانحناء, انحناء يحثك على توقير المكان, وجدتني أهبط.. رائحة البخور الجاوي تملأ المكان .. لا أعرف مصدرها لكنها محيطة إحاطة الهواء ذاته .. لم يكن المكان يحمل لافتة باسمه, أي علامة تدل على وجوده, وإلا كنت لاحظتها من قبل, الكراسي الخشبية بليفها القديم المجدول, وعلى ظهر كل كرسي كان الاسم محفورا "الفردوس". المدهش .. رغم أن كل ما رأيته كان مدهشا .. أن روادها رحبوا بي بالاسم, للوهلة الأولى ظننتهم نائمين, حركتهم قليلة بطيئة, يتمتعون بسكينة مذهلة, قدم لي الجرسون كرسيا كأني زبون قديم, اقترب أحدهم مترحما على أيام أبي, كانوا كأنهم بانتظاري .. أو كأنهم أصدقائي القدامى.. التقطت أذني عبارات الشوق لأبي .. الفرح بمن يحمل رائحته. قدم لي جليسي زجاجة شراب .. صفرته عجيبة ظننته في البدء مشروب الحلبة أو الينسون .. لكني لم أجد طعمهما به.. ونفى عقلي تماما أن يكون نوعا من الخمور, إشراقة وجوههم وبعض علامات السجود على الجباه أكدت النفي, لم أرهق عقلي كثيرا في البحث عن ماهيته.. ودون أن أن أسأل رحت أفرغ الأكواب بجوفي. لم أتأكد حتى الآن هل كانوا فعلا من رأيت أم أنه ذلك المشروب فعل برأسي ما فعل. في الركن يجلس شيخ شديد الشبه بتوفيق الحكيم يلبس جلبابا أبيض, قلت : إنه المشروب لكن حين أمعنت النظر فيمن يجالسه رأيت عبد الناصر في هيئة شيخ أزهري معمم تتدلى من يده مسبحة تكاد تلمس الأرض. تظهر عمامته علامات المشيب الشهيرة على فوديه, أسرعت خارجا باحثا عن يقين هل أحلم أم سكرت؟ وجدتني ما أزال بالشارع.. رأيت الورش والمعارض وأصدقائي أصحاب الدكاكين, دخلت ثانية ولم أجلس.. هذه المرة كان الجميع يتحلقون في دائرة كبيرة يتهامسون بود, وقف يوسف إدريس ببذلته الرمادية اللامعة وشعره الأبيض ليصب كوبا للعقاد.. لن أطيل عليك.. كل من رأيتهم كان إما كاتبا أو مغنيا شهيرا.. حتى أن المازني أعلمني أن الوالد كان لا يبرح هذا المجلس قبل تعبه, متى وكيف لا أدري, كنت دائما عند نهاية جولتي وأنا صغير أعود لأجد أبي جالسا في مكانه منكبا على العمل .. كنا نعود معا للبيت فلا أراه يخرج ثانية.
انتبه طارق من ذكرياته على صوت مصطفى ضاحكا :
- أخذتني حكايتك بعيدا عن الدنيا والشارع مع أنك تحكي عن الشارع, ولكن ألست معي ان هذا المشروب هو نوع رديء من الخمور؟ لم أكن أعرف أن رأسك خفيف لهذا الحد.
- لا والله .. لم يكن خمرا .. أنا على يقين من ذلك, لهذا أردتك معي اليوم شريطة أن يمتنع أحدنا عن الشرب لنرى ماذا سيحدث.
رد مصطفي وهو يهرش جبينه :
- لا أعرف هل سأسافر غدا أم لا .. ولكن إن لم أفعل سيكون لنا لقاء هنا.
- اسمع يا مصطفى.. هي في كل الأحوال أختك. ومن قبل ومن بعد من يحمل قربة مخرومة تخر على رأسه, لذا يجب أن تسافر وتحضر الفاتحة وسطهم.. أنت رجل العائلة يا أخي.
وجدت الكلمات طريقا ممهدا برأس مصطفى .. فليسافر. ابتسم بمرارة لصدى كلمات صديقه الأخيرة "مهما يكن .. أنت رجل العائلة".
* * *
وكأن ما لاقاه طوال ساعات اليوم لم يكن كافيا .. بدأ الصداع خفيفا في مؤخرة الرأس, مع صعود كل درجة سلم يزداد الدق عنفا. لمح باب الشقة المقابلة يغلق بلطف قبل أن يصل لشقته, الصداع وتفكيره في نهاره.. الجنازة والفردوس وطارق .. وقف طويلا يجرب كل المفاتيح قبل أن يطاوعه الباب وينفتح.
بدأت مطرقة الصداع عملها الرتيب, دقات أشبه بدقات القلب تحطم رأسه, وكأن قلبا ضخما سكنها, لم تفلح المسكنات وفنجان القهوة في فعل شيء.. يأتي الألم الرهيب من خلف الرأس ليتجمع بمنتصف الجبهة, أطفأ سيجارته فخف الألم قليلا ليعود بعدها أشد.. تذكر آخر مرة عانى فيها من هذا الألم الغريب عليه .. زاره بعد تجربة فاشلة عاشها قبل أن يرتبط بزينب..
ساعتان كاملتان من الصداع مع عدم الفهم. جارته التي تحاول اصطياد لحظات تكبل فيها عقله.. تقنعه بفيض أنوثتها وفي الوقت ذاته عفتها, محاولةً اقتناص لحظة يعترف لها فيها بعشقه.. احتمالية تجهيز البيت لتصبح هي سيدته .. احتضنته بعنف طالبة أن يعترف في أذنها بحبه.. تعتصره بقوة وترتمى على الكنبة وهي تحضنه.. فيقع فوقها بكامل ملابسهما.. يرى سرعة دوران نني العين, تلاحق أنفاسها تلفح وجهه, وفي قمة انهماكها تهمس بلوعة أن يتركها.. تقوم باكية.. لا يستوعب عقلها ما فعلته منذ لحظة .. تقترب من الباب مزمعة الانصراف .. يهدأها بكلمات قليلة .. تطول وقفتها أمام الباب دون أن تمد يدا لتفتحه .. يخمن أنها تطلب وداعا صغيرا.. يفكر في قبلة حانية خالية من الرغبة .. يحتضنها فتتعلق به بشبق عاصف, يتعجب من قوة ذراعيها.. ليسقطا ثانية في نفس المكان بنفس الوضع السابق, تعاود كرها وفرها, يد تحوطه ويد تدفعه بعيدا.. شفاه تهمس وتصرخ بكلمات متناقضة.. "أحبك" .. "اتركني" لتعود لتقف باكية…. كان هذا أقصي وأقسى صداع مر بحياته. لم يحاول حتى أن يبدل ملابسه.. ارتمى على السرير وترك نفسه يغوص في سرداب أسود عميق.
* * *
لم يختبر إحساسا بالضآلة كما حدث بالأمس. استيقظ لاهثًا ممسكًا رقبته, شعر بفقرات عنقه تتحطم.. فتح عينيه بصعوبة واعتدل على ظهره ليهدأ تنفسه قليلا.. جو غرائبي يغلف تفكيره.. حاول أن يتذكر تفاصيل الحلم – الكابوس – فلم يتذكر شيئا, رائحة الحلم بأنفه رغم هروب التفاصيل.. مد يدا متكاسلة إلى الهاتف.. الأرقام الصغيرة على الشاشة تعلن الثانية عشر ظهرا. لم ينوِ النوم حتى هذه الساعة.. ضاع اليوم ولن يذهب لعمله.. كان قراره قبل النوم أن يذهب ليستأذن في الخروج مبكرا ساعة. يوم غياب جديد, وتأنيب من المدير قادم لا محالة.. رغم توقع التأنيب سرّه عدم الوقوف أمام مديره طالبا الإذن بالانصراف المبكر..
مرّ اسم زينب برأسه, اسمها فقط يبعث وهجا منيرا برأسه.. تلتئم انكسارات روحه, هكذا سيستطيع أن يراها اليوم عند خروجها من العمل. قام ليعد فنجان القهوة الصباحي.. قفزت تفاصيل الحلم كلها فجأة .. أسرع يصب القهوة. فتح صفحة جديدة في الأجندة الحمراء التي خصصها للأحلام منذ قومه القاهرة.. في رأس الصفحة كتب "الحلم 67" وبخط أصغر على السطر الثاني "15 مايو 2011 ".
"بدأ الحلم بالظلام.. عينان كبيرتان تلمعان وسط الظلمة.. سواد مقبض يسيطر على جو الحلم.. تشع العينان ويزداد بريقهما, فيظهر الوجه.. وجه بني لثعلب بلحية مدببة.. يحفر بقدميه الأماميتين الأرض بجنون .. تتسع الحفرة تحت السلك الفاصل بين الثعلب وذلك الكائن الأبيض بالداخل.. تتضح الرؤية فأرى الكتلة البيضاء تتشكل في هيئة دجاجات فزعة.. تتقهقر مذعورة للخلف فتلتصق مؤخراتها بالحائط.. ترقد الدجاجات ببلاهة منتظرة مصيرها المحتوم دون حركة أو صوت. تغلق عيونها باستسلام, يتأهب الثعلب للهجوم.. يفرد ساقيه الأماميتين ملصقا صدره بالتراب, ويبدأ التسلل.. ترتفع الضجة بالخلف.. لم أر نفسي بالحلم حتى الآن وإن كنت أشعر بالتهديد.. تقترب مشاعل متراقصة اللهب.. تهتز ملامح حامليها مع اهتزازها.. تتحول فجأة وجوههم إلى الشكل المثلث.. ترتفع الآذان الصغيرة المدببة وتنبت اللحى, تتداخل المثلثات وتزداد لزوجة الظلمة, يعم السواد. أعود لأرى المثلثات تتجمع وجها واحدا تلمع عيناه بالظلام. ليعاود الحلم بدايته من جديد.. عدد لا نهائي من التكرارات تمرق بسرعة البرق.. وفي كل مرة أرى الرعب نفسه في عيون الدجاج, دأب الثعلب في الحفر.. لكن بشاعة وجهه تزداد مع كل بداية.. تفوح من أنيابه رائحة نتنة.. تكبر الأنياب وتسيل منها الرائحة فأعجز عن الرؤية.. تخنق الرائحة روحي.. يرتفع صرير الفكين وينفرجا باتساع, تغوص رأسي في الحلق العفن.. وأسمع تكسر عظام رقبتي".
انتهى مصطفى من الكتابة ليجد قهوته باردة.. يشربها دفعة واحدة ويعود للكتابة.
تعليق على الحلم :
- لم أر زوج أختي المرتقب رغم شعوري اليقيني بوجوده بالحلم.
- لا أعرف على وجه التحديد إن كنت أنا إحدى تلك الدجاجات لشعوري الشديد بالتهديد وتكسر رقبتي, أم كنت مراقبا ليس إلا؟.
وكيف تحول صيادو الثعالب إلى ثعلب كبير.
قام ليتصل بزينب.. لينبهها أن تنتظره أمام مقر عملها, رنين متواصل على الطرف الآخر.. عاود الاتصال ثانية دون إجابة, حدّث صورتها بخياله: "أين أنت يا زينب؟ لماذا لا يحمل هذا الهاتف سوى الكلمات الصادمة؟". تذكر كلمات الأمس عن رجل العائلة فقام متحمسا. ملابسه متناثرة مبعثرة بإهمال على أرض الطرقة المؤدية للحمام, ترك جسده لتدفق الماء, ما يشغله الآن الاتصال بها.. لا يضمن المواصلات التي ستحمله إليها.. قد يتأخر عن موعد خروجها فتذهب للبيت دون لقائه.
من أين له بماء غير المنساب على جسده.. ماء بمواصفات خاصة تخترق الروح وتغسل ما بها من مرارة, تمسح ما علق بها من غبار الضآلة وتراكمات الإحباط واليأس. ابتسم لوجهه بالمرآة, "ماذا إن تركت هذا كله وذهبت لفردوس طارق, السكر دون خمر" مسح نقطة دم متجمعة على ذقنه إثر الحلاقة وخرج عاريا للدولاب, بذلة المناسبات الداكنة.
أعجبه الشعور بالعري فلم يقاوم التسكع بالبيت دون ملابس.. أخّر ارتداءها حتى ينتهي من كي القميص.. عادت صورة زينب فأسرع يرتدي ملابسه.. خجل أن ترد عليه هكذا دون ملابس, وإن كانت لن تراه.
- أهلا زينب. لحظة صمت .. وانساب صوتها ببحته المميزة التي يعشقها :
- أهلا مصطفى.. لم أستطع الرد من قبل .. كنت بعيدة عن الهاتف.
لمس بصوتها مسحة اختناق.. قبل أن يسألها بادرته :
- هل سأراك اليوم؟
لم يتوقع السؤال .. هو من أراد أن يفاجئها بحضوره. متى علمت بسفره وهو نفسه لم يمر على معرفته بالسفر سوى نصف يوم؟
شرحت له في عجالة كيف أن أباها – عمه – استنكر ما يحدث.. كيف نام كمدا من أفعال نضال .. ودون علمه .. رجته أن يزور عمه ليشرح له ما حدث ويشعره أنه لا يزال كبير العائلة.
حتى زينب, ملاذه الأول والأخير, تنتابه الحيرة أمام كلماتها, هل يخبرها أم يصمت ويواج غضب عمه؟ "آه يا عم لو تدرك أننا في الهم (كبار العائلة)".
- سأحاول قدر استطاعتي اللحاق بموعد خروجك.. انتظريني.
* * *
تحول الطريق المترب في مدخل البلدة إلى أسفلت لامع.. بعض العمارات متعددة الطوابق شاهقة الارتفاع نبتت على جانبي الطريق.. حتى البنايات القديمة تلونت بدهان كريمي اللون لتتناسب والجو العام للطريق, أشجار الظل ونباتات الزينة تتوسط الرصيف المطلي حديثا.. لكن شيء ما يجثم على الأنفاس, شيء رآه متمثلا في الشرود المغلف للوجوه, الملامح تمتزج بأحاسيس الكآبة الرتيبة .. تبدلت الأبنية ولم تتغير وجوه قاطنيها.
كان يمني نفسه بركوب عربة حنطور من الموقف, تخيل نفسه ممسكا يدها يساعدها على الصعود.. يدق قلبه مع دقات حوافر الخيل, لما لم يجد استسلم لأول سيارة أجرة وقفت جواره.. استفسر من السائق عن غياب عربات الحنطور, علم أنها تقف الآن بالقرب من الكورنيش, صارت من مستلزمات السياحة, حناطير تراثية تؤجر بالدقائق للعشاق.. يختفون داخلها بعيدا عن الأعين المتلصصة.
سرحت عيناه مع لون البنايات الجديد, امتدح روح التجميل التي طالت البلدة أخيرا.. منتظرا من السائق الزهو بما حدث.. صدمه السائق:
- وهل تصدق؟ أنت بالطبع تعلم ما وراء هذا
- وهل للنظافة تفسير آخر غير أنها نظافة؟
قهقه الرجل .. ترك عجلة القيادة وضرب كفا بكف:
- هي ميزانيات يجب أن تصرف, وعادة لا يجدون ما يفعلون سوى دهان المدهون ورصف المرصوف.. يقتسمون الأموال مع المقاولين ويلطخون الدنيا بهذا الطلاء.. فتنتفخ كروشهم.
- وليكن.. هي خطوة على الطريق, وفعل شيء أفضل من عدمه.
ازداد تعجب السائق من منطق مصطفى.. سأله :
- من أين جئت؟
- من القاهرة
- بالتأكيد لا يوجد هناك طوابير عيش أو أزمات معيشية.
ابتسم مصطفى ليخفي مرارته وسأل السائق فجأة:
- هل ما زالت النساء هنا تربي الدجاج بالمنازل؟ انهمك السائق في الإجابة .. إيضاح ما آل إليه الحال.. سرح مصطفى مع الطريق ولم يكن ينتظر أي إجابات.
* * *
قال لزينب :
- توقفي عن لومي, تأنيبي, لست من يستحق اللوم؟
لاحظ انفعاله وحدة لهجته معها فداعبها مبتسما :
- لومك يدمر ما بيننا, إن لم تتوقفي سأهجرك بلا عودة.
- إن هجرتني سأمحوك من عقلي وقلبي للأبد.
- وهل تقدرين؟
- وهل ستفعل؟
أوضح لها الخطوات التي اتخذها في سبيل بناء عشهما, إعادة تهيئة البيت ليتناسب مع حلمها عن بيت الزوجية, إسراعه بالتجهيز ليعجل الزفاف. ابتسمت بعشق:
- إلحق عمك.. قبل أن يصل الموضوع معه لطريق مسدود, قبل أن يركب رأسه ويفعلها.
- يفعل ماذا؟ وكعادتها معه لا تتم جملتها .. وعليه – كما تعود أيضا – أن يستنتج ما أرادت أن تقول.
أطفأ سيجارتين قبل أن يتم قهوته, هو يوم القهوة الباردة, رداءة البن واتساخ المفرش عكرا مزاجه .. بدا عدم الاهتمام بالنظافة واضحا في كل تفصيلات المكان, تغير الحال خلال السنوات الأخيرة..
اختفت الحديقة من أمام الكازينو, كانت المتنفس الوحيد للعيون قبل أن تحتلها مجموعة ترابيزات لمطعم كشري مجاور, حلت زجاجات الشطة والدقة مكان الشجيرات الصغيرة, وعلى الأرض تناثرت أغطية بيضاء لعب الأكل, صدمه التناقض بين مدخل المدينة وأطرافها, هنا اعتاد أن يقابل زينب, يتذكر بداياتهما معا كعاشقين, أول لقاء, لمسة يد, تصريح بالحب.. يعدها خيانة للمكان والذكرى إن ذهب معها لأحد الأماكن الجديدة ذات الأسماء الأجنبية, والتي امتلأت بها البلد.
أراد أن يسأل الجرسون العجوز عما حدث.. لكنه يتوقع الإجابة.. لم يعد المكان يجذب سوى أمثالهم من الباحثين عن الذكريات.
حين ودعها قرر عدم العودة لهذا المكان أبدا, كذلك عدم الذهاب لمكان آخر جديد. تركها واستسلم لفكرة السفر دون الذهاب للبيت, هل حقا ينتظرونه؟ فليقولوا عنه ما يريدوا لكنه يرفض ما اتفقوا عليه, فليتحملوا العواقب وحدهم.
قضى ساعتين متجولا وحده بمحاذاة النيل, عادته القديمة التي لم يمارسها منذ سكنه القاهرة, النيل هنا يملك وجها آخر.. مذاقا بكرا.. رائحة هواء طازج لا يملكها نيل القاهرة. سند رأسه على زجاج الشباك, السيارة تنطلق باتجاه الرجوع.. العودة لبيته بالقاهرة, فكر فيما سيقوله لهم غدا عبر الهاتف إن فكروا في الاتصال به أو لومه, هل يعتذر أم يجاهر برفض الزيجة؟ بالتأكيد ما دام في الأمر لوم فسوف يتصلون!
قرر أن يتصل بعمه معتذرا عن عدم ذهابه وعن كل ما يحدث.. طالبا منه تحديد موعد قريب للزفاف وإن لم تكتمل تجهيزات بيت الزوجية؟
تتابع أعمدة الإنارة.. وأشجار الطريق في جريها السريع أمامه سرّبا له إحساسا بالنعاس .. قفز الحلم إلى رأسه فأغمض عينيه وراح يتخيل نهاية أخرى …
"بعد أن تتهشم رءوس ورقاب بعض الدجاجات, تتحول الطيور المتبقية إلى نسور ضخمة.. ترفرف بأجنحتها الكبيرة فترتفع حاملة العش, منطلقة في البراح الفسيح, تجمع شتاتها وتنقض بمناقيرها الحادة على وجوه حاملي المشاعل, تفقأ عيونهم قبل أن يتحولوا إلى ثعالب, تسيل الدماء على الوجوه, يحاول كل منهم في يأس التقاط عينيه ليضعهما بوجهه, فتسقط المشاعل من الأيدي, ويمتلأ الجو برائحة الشواء".