الأحد، 30 أكتوبر 2011

متابعة مرئية


* ما بثته الأنثى من وجد :


الأنثى الفاتنة الببغاء
   في تلفاز العشق تواصل
تتراكم أحرف نظريتها البلهاء
  في بثٍ حيٍ متواصل
كالماء العطن بإبطيّ نهر
             كالنزف السيّال.
فاصل …
        لا يلمس عقل المتلقى الإرسال



* تعليقٌ أول :

    ألِفٌ …
       -        بالضمِ أو الكسر أو الفتح -
             الخطو الأول في مرقاة البوح
    والشرخ .. أول آيات الكسر
    والياءُ….  المرفأ
    تنهيدة عشقٍ .. مبتدأُ الجرح
   والموتُ… الخبر المغلق في وجه مريد الإصغاء
   ما بينهما ….
         إحدى عشر مواءمةٍ .. وجروحٌ عشر
         يتبقى خمسٌ ما بين الرغبة والآمال
تكبّل قدم الرحال.

تعليقٌ ثان :
    تتشعب في كل خلايا جسد المتلقي..
        أصداءُ سؤال:
    - هل كانت صدفة …
      أن توجد في مبتدأ الدرب..
                          بالربع الأول …
                                الحاءُ .. الباء؟
    أما الواو الهاء الميم ..
        تتناثر في آخر أبيات الترنيم؟!
     ياءٌ ؟!!
       وثلاثُ علاماتٍ للترقيم.

* تعليق ثالث :
    مازال المتلقي
    يرفع لاقطةً كي يتلقى
    يتوقع بعد الفاصل .. بدءًا آخر للإرسال.

الخميس، 13 أكتوبر 2011

نزف لا يتواءم والجرح


تتعمد حك القشرة عند طلوع الفجر. تجمعها كقروشٍ داكنة الحمرة
حتى لا يلتئم الجرح..
أو حتى.. يجب البتر.

يتكوم ما تجمعه في طبق شفاف يتوسط بهو البيت
وسط الأوراق الجافة للورد الميت
فتفوح الذكرى - الجرح - خانقة جو الحجرة.
*


… وكبيتٍ أنا بوابته .. يعبرني الجرح
يجتاز صباحًا منفَرجي
متئد الخطوة يمسح رائحةً لزجة بضلوعي .. بزجاجي.. بحديدي المشغول
يمضي منفلتا كالريح
يقضي بعض مشاغله في الحارات الملتوية ..
في أجساد الأحباب.. الأسرةِ.. بعضِ رفاق المقهى والدرب
يتشاغل عني بضع سويعات
فيحين خروجي… ملتمسا طرقا لم تعرفها قدماه
أتنسم بعض ورود ورياحين.. رفةَ عينٍ.. نبضةَ قلب
وحين أعودُ .. يعود
قبل سقوط الشمس الغافلة بشرك الليل
             - لا أسمع طشتها في ماء النهر.. إلا ويؤكد فيّ حضورا طاغٍ –
ينساب خفيفا من شرفة روحي كاللص
يتلمس لمحات ٍ من ذكرى عطرة.. مازالت تتنفسها ألوان طلاء الحائط
مازالت تتدثر من برد الكد اليومي بكلماتي
في أوراقي المندسة بالأدراج
يتشمم ريح الظفر بفائت أيامي
يخنقها.. يخنقني
يترك زنخ عفونته..
ينقش بالنار حروفا من سطوته
متكئا في تاريخي ينثر أعضاءً محتقنة
فوق سريري منتصبا مصلوبا
                        … يبتدأ النزف
*


أذكر خفتها ..
- حين أتمت في الثلث الأول من ليلة صيف -
مراسم حفلتها
أتذكرني ..
لحظة أن مس الجسد الدافء لكماني
جبلَ الرغبة مغروسا بالكتف المرهق
تتسحب نحوي وتحاذر أن تلمس بلورة شجني
أرشف كأس التفاح - رحيقَ نداوتها
فيفور القرص - السم - بكأس الرغبة
تغلق عينًا بأناملها ..
أغلق أخرى
          أتغافل عن رائحة الزيف
*



هل أكسر بيقيني بلورة حلمي؟

أم هل يختلف المعنى - المقصد -
إن دُسّ السم بكفٍ أخرى؟
أنتبه لصوت الناي القادم من تاريخي
أمسك قوسي ..
فلا ينساب – كما أمّلتُ – العزف.



*



منذ سكون رحيق نداوتها - قرصِِ السم الفوارِ - القلبَ

…. أعوامٌ عشرٌ مرت
وأنا أفتح نافذتي عند تثاؤب ضوء الشمس
تتناثر بعض حبوب البهجة من كفي
ألقيها طعما لعصافير الجنة
منزويا في ركني أترقب رجفة ساق
رعشة منقار يغويه الحَب – الحُب
أخفي الورد الميت خلفي
حتى لا تلمحها عينا عصفورٍ يبحث عن قلب
لكن طيوري ترفض أن تلج القلب
الرائحة المختبئة تأبى إلا أن تخنق أنفاسي
يتحرك قرص السم يغافل ما أتصنع من بهجة



                                             ….. ويفور

الأربعاء، 20 يوليو 2011

عود ريحان أخضر

امتدت يدها تلتقط الجلباب الأسود من خلف الباب.. رغم حرارة الجو ارتدته فوق قميص البيت .. فكرت للحظة أن تخلع هذا وتلبس ذاك.. قالت لنفسها أن المشوار بسيط .. القميص قصير , واسع الصدر يكشف أكثر مما يخفي.. تحلم كل يوم أن يعود فيراها هكذا ..تهيء له المكان فتضع بعض أعواد الريحان الأخضر في كوب جوار السرير.. لتنعشهما الرائحة.. تأخذ ورقتين تدعكهما بين يديها وتمر على جسدها.. تتخيله ينظر لجسمها بشوق.. يترك ما في يده ليرتمى في حضنها .. تتركه يعبث كيف يشاء.. تصرخ بدلال حين يعتصرجسدها : اوع ايديك يا راجل.. ودائما تفوق من الحلم على جسده الثقيل يدخل في الموضوع مباشرة وكانه مقطوع الذراعين مبتور الشفاه.
خطفت شنطة السوق البلاسيكية وأغلقت الباب خلفها بهدوء حتى لا يستيقظ الصغار.. لم يترك لها سوى قروش قليلة عليها أن تتدبربها حالها طوال النهار حتى يعود فيجد طعامه جاهزا كالعادة.. تتفنن في إسعاد العيال تخرج من السوق بأشكال متنوعة من الخضار كل يوم .. وتجتهد ألا تنسى شراء القليل من الفاكهة لهم .. الباعة يعرفونها جيدا تشعر معهم بالألفة بأنها وسط أهلها فيتهاونون معها في السعر وفي الميزان .. أغلبهم ريفي – مثلها – جاء من أطراف المدينة يسعى طلبا للرزق.
دكان سيد الحرامي على ناصية الشارع .. لا تعرف لماذا اشتهر الرجل بهذا الاسم بهذه الصفة, وهي لم تلحظ يوما أنه زاد سعر شيء أو غالطها مرة في الحساب .. حتى أن لحيته , التي دائما ما تكون مهذبة, وبياض وجهه, يشعراها دوما أنه انتهى من صلاته حالا .. اعتادت أنه تناديه بعم سيد كما يناديه الأطفال رغم كونه يكبرها بسنوات معدودة ..
أخذت قرطاس السكر وأخرجت من الشنطة زجاجة الزيت الفارغة ليملأها .. يضع طرف القمع الصفيح في الزجاجة بحرص ويملأ المكيال .. يصبه في الزجاجة فيسيل الزيت في الداخل بهدوء.. نصف كيلو فقط هو ما تقدر على دفع ثمنه .. تطلب منه بدلال أن يتوصى .. فيضع القليل مبتسما .. أنت تأمري يا ست الكل.. تلمس كفه يدها وهو يناولها الفكة.. باقي الحساب .. تجد الكلمة واقفة على طرف لسانها .. اوع ايدك يا راجل .. لم يخرج حرف من فمها .. امتلأت عيناها بالدموع.. واختنق صوتها تشكره.
في طريق عودتها أحكمت غلق زجاجة الزيت وأفسحت لها مكانا جوار الخضار .. حملت ما اشترته بيد واحدة حتى تستطيع بالأخرى أن تمسح دمعة تحاول أن تسقط.

الأربعاء، 8 يونيو 2011

صيد الثعالب

يحدث أحيانا أن يزلزل كيانه بعض كلمات أو مواقف اعتيادية, يراها الآخرون أقل وأبسط من أن يكترث لها, لكنه يفعل ويكترث. الرسالة النصية التي تسلمها وهو بين الرفض والذهول كانت إحدى تلك المسائل المؤرِقة. يخطو مصطفى على مهل, تحوطه المساجد شامخة الجدران, تاقت نفسه للقاء طارق بورشته بشارع المعز. تتشرب عيناه النقوش التي لا يمل قراءتها, بعض آيات القرآن .. أبيات الشعر القديم تمتدح حاكما أوغل زمنه في القدم, زال المُلك والحكم, وبقيت النقوش تبوح بأخبار أزمنة مرت, تواريخ الإنشاء.. تفوح رائحة الانتصارات.. والمؤامرات أحيانا. 
الهدوء الرائق الرائع لفترة ما بين العصر والمغرب وتمازج أشعة الشمس مع الظلال المنكسرة على الجدران فصلاه عن عالم القاهرة متوحش الزحام. أشعل سيجارة ووقف يبحث عن مكان يريح ظهره المكدود من اهتزاز المواصلات العامة, الوقت أمامه متسع فلم يعتد لقاء طارق إلا بعد الغروب. مسجد صغير لا يحمل ما لجيرانه من مساجد وأسبلة من بهرجة الزخارف وشموخ الارتفاع.. ألقى على المكان نظرة مستطلعة, صف من المقاعد الرخامية وضع جسده على أحدها, واستسلم لإحساس الراحة. برودة الرخام تسري بجسده, برودة مدهشة لا تفسير لها في هذا الجو الحار. حميمية ما تشربتها روحه العطشى للتواصل وإن مع الحجارة. خلفه سلم صغير ضيق قليل الدرجات يدل مستوى الفسحة في نهايته على مستوى الأرض عند بدء البناء. قاوم رغبة في النزول ليستكشف البوابة الضخمة نصف المغلقة, تنفس بعمق مستمتعا بنشوة سرت في روحه, كطائر صغير حلق خياله مع همسات الذكرى منصتا لوشوشة البنائين العظام حوله. انتبه للأصوات ترتفع أمامه, بائع ومشتري يتناوشون حول سعر سلعة ما, التفت صوب المحال الأخرى, بعض الجالسين في مداخل محالهم يتجادلون حول موقف الحكم في مباراة الأمس.. لا يأبهون لتحليق عدة ذبابات حول أكواب المشروبات أمامهم. 
يرتعش الهاتف بجيبه ارتعاشة قصيرة, مد يده بعدم اهتمام, بصعوبة أخرج الهاتف, كان نص الرسالة حادا موجزا آمرا "غدا مساءً يجب أن تكون بالبلد, قراءة فاتحة (نضال), احرص على ارتداء أفضل ما عندك" !! تتابُع الكلمات على الشاشة الصغيرة ولّد برأسه نبضات سريعة مقلقة, شعور بانقباض خنق صدره, لولا حبوب معالجة الضغط لانفجرت شرايينه الآن, انطلق صفير حاد من أحد مكبرات الصوت على غير موعد لأذان أو إقامة, لمح جنازة تقترب متجهة صوبه, صوب المسجد خلفه, رأى القليلين ممن كانوا يتجادلون أمامه يتركون مناوشاتهم للانضمام لها, رفع سبابته موحدا وقام كالنائم نحوهم, وجد نفسه كالمجذوب وبغير إرادة واعية يهرع للصندوق الخشبي, يثني ركبتيه قليلا ليدس كتفه تحت النعش باحتراس, يزيح أحد المشيعين برفق ليأخذ مكانه, بإيماءة سريعة يشكره الرجل ويتأخر.. يذوب في الجمع. يجد مصطفى نفسه مأخوذا برهبة الموت, هذا الجسد الذي يحملونه وقد فارقته الحياة, جسد بلا روح. تنهمر الدموع الصامتة على خديه, وتخرج التهليلات من جوفه مختنقة, يتذكر صندوق أبيه, دنو أجل بعض الأحباب .. فعلها أبوه وأنجبه بعد أن تجاوز الستين, فحكم عليه أن يكون الابن البكري للزوجة الجديدة, وأنجب بعده شقيقين وأخت, ليصبح هو الذكر الأكبر.. مَن يحمل اسم أبيه, تفصله عن البنات الكبيرات غير الشقيقات ما يزيد على الثلاثين عاما.. أخته الكبرى في عمر أمه تقريبا. تلفت حوله يريد أن يدعو الجميع للصلاة, المارة .. المشترين .. البائعين.. السائحين, ود لو يشاركه كل من بالشارع صلاة الجنازة, كلما زاد عدد المصلين زاد الرجاء بمغفرة الله, شمول رحمته. كان على يقين بأن المتوفى - الذي يحمل الآن جسده على كتفه – يحتاج الدعاء, في أمس الحاجة للغفران "ومَن منا غير ذلك" قالها في سره وهم يضعون النعش أمام القبلة. الموت .. هذا الكائن شديد الجبروت, مفرط الحنكة, لا يفر منه أحد وإن حاول, يختبر الجميع على غير توقع أو انتظار, يمس الحياة ويتركنا فلا نستطيع رواية التجربة, في أي وضع كان المتوفى حين أتى أمر الله؟ هل كان مغويا بالدنيا ومتعها الفانية, أم يلهث خلف لقيمات يعود بها آخر الليل لعياله وامرأته؟ مرّ خاطر عابث بفكره.. ماذا إن كان يطفأ شهوته, يتمتع بفاكهة الفقراء الوحيدة المتاحة .. طرد خواطر شتى لما سمع الإمام يذكرهم بكيفية صلاة الجنازة, منبها أن المتوفاة أنثى حتى لا يغفل المصلون عن الدعاء بصيغة التأنيث. لماذا اختار الجلوس أمام هذا المسجد بالذات؟ وهل كان سيدخل للصلاة إن كان سائرا ومرت الجنازة أمامه؟ ما أقصر الحياة وأشد غرابتها وإن طالت! همس متعجبا : دعوة لقراءة الفاتحة في البلد احتفالا وتبركا.. ابتهاجا بعقد القران, وها أنا الآن بجوف مسجد بقلب القاهرة أتلوالفاتحة في الصلاة على إنسانة لم تتقاطع حياتها مع حياتي إلا بعد الموت! انصرف حاملو النعش, فكر في الخروج لشراء طعام .. تذكر زيارته الأخيرة لطارق, تأخر صاحبه مما جعله ينتظر طويلا .. أن يهيم مصطفى على وجهه بالساعات خير عنده من انتظار نصف ساعة. فضّل هذه المرة أن يبقى بالمسجد, رطوبة المكان وبرودته, رائحة السجاجيد, خليط العطور المتمازج مع عرق جباه المصلين ودموعهم المستغفرة, وهل للدموع رائحة! ركن ظهره على أحد الأعمدة وبدأ في استظهار بعض الآيات, وحين استعصى عليه التذكر قام ليأتي بمصحف يقرأ فيه .. بدأ بسورة الفاتحة, واستمر منتظرا صلاة المغرب.
* * * 
بعد الصلاة غادر, وحين اقترب من الشارع الذي تحتل الورشة ناصيته وجد صاحبه جالسا يمين المدخل حتى يراقب – من مكانه المختار بعناية – الشارع والعمال في آن واحد. هو طارق لم ولن تغيره السنون, جلسته المعتادة, هيئته التي يلقاه عليها دوما, جالس على كرسيه قصير الأرجل يحمل بين ركبتيه رقاقة نحاسية تتحول في دقائق إلى إحدى تحف خان الخليلي. تغوص عيناه في تفاصيل النقوش التي لم يحفرها بعد, عينان ضيقتان وأنف صغير لا يتناسب واستدارة وجهه وجسده, ترتفع يمناه بالمطرقة الصغيرة على رأس الأزميل المبطط.. لينساب السن الحاد راسما ملامح نفرتيتي جميلة الجميلات تحوطها زهرات اللوتس. يترك المطرقة ليأخذ – دون أن ينظر للكوب – رشفة من الشاي, ليعود كوعه مستندا على كرش صغير نبت من طول الجلوس. في اندماجه مع النحاس لم يشعر باقتراب مصطفى, دله الظل الساقط.. الغيمة الطويلة التي حجبت أضواء الشارع أن هناك من يقصده, رفع رأسه وهب واقفا :
- هذا ما حسبته.. مستحيل أن يكون هذا الظل لغيرك.. أهلا درش. تعانقا بشوق مّن لم يلتقيا من زمن.. 
قال مصطفى وهو يربت ظهر صاحبه: 
- تقصد أن الدنيا أظلمت بحضوري؟ 
 - حاشا لله.. أنت نور الدنيا. قالها و أشار بيده لصبي الورشة: 
- هات كرسيا لعمك.. التفت إليه باسما : 
- سأنتهي من هذه القطعة ونقوم للمقهى. 
يعرف طارق ضيق صاحبه بهذه الكراسي القصيرة, وخجله من الجلوس على كرسي آخر مرتفع عن مستوى الجالسين, يصمت مصطفى متابعا حركة الأزميل, يحاول طارق أن يخرجه عن صمته بسؤال عن الصحة, لم يتعجب مصطفى من استمرار الأزميل في النقش حتى في اللحظات الكثيرة التي تترك فيها عينا طارق الطبق.. أول الأمر كان يستغرب ذلك , الآن يوقن أن لأصابع صديقه عيونا صغيرة بأطرافها تدل الأزميل على مكان الحفر. يتشاغل عن الرد بالنظر لتفاصيل شباك السبيل المواجه للورشة, العصافير المعدنية الصغيرة تزين المعدن المشغول بحرفية فائقة يرى في صديقه امتدادا لها. ما يعجبه في طارق عشقه للمهنة.. إصراره على العمل بيديه رغم امتلاء السوق بالأطباق النحاسية المصبوبة المصنعة آليا.. والأعجب استيرادها من الصين, يتذكر تعليق طارق (حتى تقليد منتجاتنا اليدوية تركناه لهم .. صارت البلد معرضا مفتوحا لمنتجاتهم). 
يجد مصطفى نفسه يبوح لصاحبه بلا مقدمات : 
- بعثت "فاطمة" اليوم رسالة على الهاتف تدعوني لقراءة فاتحة "نضال". 
- ألف مبروك .. أتم الله لها بالخير .. وبالرفاء والبنين يا سيدي. ينظر مصطفى للأرض, يصمت برهة ثم يعاتب صديقه : 
- ليس هذا وقت المزاح! 
يفاجئ طارق رد الفعل, هو لم يقصد مزاحا, وحين تذكر أن نضال الأخت الكبرى التي تعدت الخمسين .. لام نفسه, فأي بنين وخلف صالح يرجو لها! أشار مقربا كفه من صدره علامة الأسف والاعتذار.. 
مر وقت لم يقطعه سوى توجيهات طارق لأحد عماله, أعقبها بسؤال : 
- ماذا ضايقك هكذا في الرسالة؟ 
ارتبك العامل ظنا أن السؤال موجه له .. أسرع بالرد : 
- أي رسالة؟ 
ضحك الثلاثة بصفاء خفف من شعور طارق بالأسف, وارتعشت ابتسامة على وجه مصطفى. 
- ما شغلني أن تتم الموافقة على العريس, ويحدد موعد الفاتحة, دون علمي. أيضا تعرف مدي كرهي لكلمة (يجب) كلما قرأتها أو سمعتها يفور الدم برأسي. 
أجاب طارق مبتسما : 
- وكالعادة بعنادك الصبياني لا تمتثل للأمر. 
- لن أعلق الآن على وصفي بالصيانية.. لكنهم امتنعوا حتى عن إعلامي ولا أقول استشارتي. 
حاول طارق ألا يبدو ساخرا فرسم ابتسامة ما بين التساؤل والسخرية.. وقال كأنه يقرر واقعا : 
- هل يغضبك إن قلت أنك من فعل هذا بنفسك؟ ألست من ابتعد عنهم وعن مشاركتهم أمورهم كلها؟ آثرت الوحدة هنا على البقاء معهم.. دون حتى اتصال دائم بهم.
رد مصطفى كمن ينفي عن نفسه اتهاما وإن كان أحيانا يدين نفسه به: 
- أن أتجاهل تفاهاتهم وسفاسف حياتهم اليومية, القضايا السخيفة بين أخت وجارة أو قريبة, هذا جائز. لكني لم أبتعد يوما عن آلامهم وأفراحهم .. بل إن أكثر آمالهم شاركتهم تحقيقها.. ثم ألا ترى أنهم بذلك هم الذين قاموا بتنحيتي؟ 
خرج الكلام دفعة واحدة, وقف بعدها يهدأ من انفعاله بخطوات قصيرة جيئة وذهابا.. 
- ثم .. أنت تعلم أن (نضال) رأيها من رأسها ولا تهتم لمشاركة أحد. 
رد طارق محاولا تلطيف الحوار: 
- أنتم من عودها ذلك, ثم يا أخي ألم توجع أنت رأسي بكلامك عن الحرية واحترام فكر الآخر وقراراته.. نسيت محاضراتك لي عن المساواة؟ 
- مساواة نعم .. ولكن ليس في هذه القرارات المصيرية.. مصاهرة وارتباط, وامتزاج عائلات بتشابك العلاقة بين أفرادها.. لكن …. 
وصمت ليكمل طارق : 
- ثم إنك لم تعرف الرجل بعد.. قد يخيب الله ظنك ويكون في تلك الزيجة كل الخير.. لماذا تستبق الأحداث؟ 
- تلك مشكلة .. أو قل تلك مصيبة أخرى.
انتهى طارق من نقش الطبق. وأشار للصبي أن يأتيه بالحذاء إيذانا ببدء التحرك. انتهى من تعديل هندامه ووضع ذراعه حول كتفي صاحبه بصعوبة وهو يشب على قدميه : 
- ألم ترغب بعد في تقليل هذا الطول المريع؟ روّق, عندي لك سهرة في مكان سينسيك اسمك والفاتحة وبلدكم كلها. ثم إنك تعطي الأمور أكثر مما تستحق, تقول "يجب" و "لم يستشيروني"!! منذ متى؟ سيجبرك الفردوس على النسيان. 
- أي فردوس؟ هل عرفت مكانا نقتل فيه أنفسنا فنستريح؟ 
- وهل إذا فعلناها نذهب إلى الفردوس؟! أنا لست مستعدا لجهنم الآن, ما أحدثك عنه مكان عجيب. هل سمعت عن الخمر الذي لا يسكر؟ 
- أظنه خمر الجنة. 
- نعم, ولكن في هذا الفردوس الأرضي ستجد السكر دون خمر. 
الرغبة في معايشة أماكن جديدة لا تتملك مصطفى اليوم, لا الفردوس ولا جهنم باستطاعتهما أن يخرجاه مما يشعر به, لن يمحوا إحساسه بالمهانة, تمنى لو باستطاعة الإنسان أن يمحو ما يريد من أفكار وقتما يريد, ألا يصطحب المرء نفسه معه في كل مكان, "انتظريني هنا وسوف أعود بعد ساعة", يتحسس الهاتف بجيبه, وكأن الكلمات تسري لرأسه عبر أصابعه "احرص على ارتداء أفضل ما عندك" لم يخبر طارق عن هذه الجملة بالذات.. شعر أن بها من المهانة والتقليل من شأنه ما يعجز عن أن يتحمله, أن يشعر به صديقه, تشتعل حرائق صغيرة برأسه لا يستطيع إطفاءها, يسأل نفسه : منذ متى صاروا يخافون على هيئتهم الاجتماعية منه. 
سار مستندا على ذراع صاحبه, لم يشغلهم التفكير في الطريق من قبل, تحفظ أقدامهم كل شبر منه, عدد الخطوات إلى مقصدهم, أين تقف وأين تمضي مسرعة. كان كعادته سارحا تاركا لقدميه تحديد الاتجاهات حتى انتبه لصاحبه يحيد عن الطريق المعتاد.. يعده بسهرة سيدمنها بل سيرجوه بعدها ألا يخرجوا من المكان. تسمرت قدما مصطفى وأشار ببرود وإن لم تخل نبرته من اعتذار: - عفوا .. لن تخرجني فراديس الدنيا من بئر الضآلة هذا, دعنا نؤجل التعرف عليه لوقت آخر. 
استسلم طارق وإن لم يكف عن التفكير في المكان, مستسلما قال : 
- كما تريد… دع هذا الفردوس لحينه, ستكون لنا جلسة طويلة هناك بإذن الله.. 
صمت طارق وعاد بصديقه باتجاه المقهى.. لكنه لم يكف عن التفكير في المكان, وجد نفسه يتحول إلى ذكرياته في هذا الشارع الذي شهد طفولته وشبابه .. قاوم رغبة في الحكي لكنه لم يستطع .. فانسابت الذكريات : 
- تعرف مدى عشقي لهذا الشارع.. أحسب أن روحي قد حبست به منذ ولدت, كان الوالد – عافاه الله – يحملني على كتفيه مخترقا الزحام, أرى منبهرا البضائع المرصوصة تزيد المكان عبقا تاريخيا, لم تكن يد التطوير قد مسته بعد, أستمتع من شرفتي العلوية – كتف أبي – بجلسة أسطوات زمان بمداخل ورشهم, من يخرط حبات الكهرمان لتصير مسابح بأحجامها وأشكالها المختلفة, من يرسم بالقماش لوحات الخيامية بألوانها الصريحة الزاهية .. مناظر ريفية وأهرامات.. أسجل كل ما تراه عيناي, كان أبي لا ينزلني إلا عند وصولنا للورشة.. مرت سنوات حتى أقنعته بأني أكبر من الأطفال السائبين للهو بالشارع, تركني أجول وحدي مستنشقا روح القاهرة القديمة, لا أعرف من منا كان يشرب روح الآخر.. أنا أم الشارع! كل حجر فيه أعرف متى استقر بمكانه, من أي أرض اقتطع.. لم أترك مكانا لم أزره… كرسيا بمقهى أو غرزة إلا وجلست عليه. أتابع شيوخ الحرف, للآن أحاول أن أخرج من بين أصابعي قطعة واحدة تحمل تلك الروح, فلا أستطيع, قطعة واحدة يرى فيها من يحملها جهد وعرق هؤلاء الشيوخ, عصارة فنونهم. 
المهم .. أنني وعلى غير موعد انتبهت للمكان, للمرة الأولى أراه, البوابة المنخفضة التي تجبرك على الانحناء, انحناء يحثك على توقير المكان, وجدتني أهبط.. رائحة البخور الجاوي تملأ المكان .. لا أعرف مصدرها لكنها محيطة إحاطة الهواء ذاته .. لم يكن المكان يحمل لافتة باسمه, أي علامة تدل على وجوده, وإلا كنت لاحظتها من قبل, الكراسي الخشبية بليفها القديم المجدول, وعلى ظهر كل كرسي كان الاسم محفورا "الفردوس". المدهش .. رغم أن كل ما رأيته كان مدهشا .. أن روادها رحبوا بي بالاسم, للوهلة الأولى ظننتهم نائمين, حركتهم قليلة بطيئة, يتمتعون بسكينة مذهلة, قدم لي الجرسون كرسيا كأني زبون قديم, اقترب أحدهم مترحما على أيام أبي, كانوا كأنهم بانتظاري .. أو كأنهم أصدقائي القدامى.. التقطت أذني عبارات الشوق لأبي .. الفرح بمن يحمل رائحته. قدم لي جليسي زجاجة شراب .. صفرته عجيبة ظننته في البدء مشروب الحلبة أو الينسون .. لكني لم أجد طعمهما به.. ونفى عقلي تماما أن يكون نوعا من الخمور, إشراقة وجوههم وبعض علامات السجود على الجباه أكدت النفي, لم أرهق عقلي كثيرا في البحث عن ماهيته.. ودون أن أن أسأل رحت أفرغ الأكواب بجوفي. لم أتأكد حتى الآن هل كانوا فعلا من رأيت أم أنه ذلك المشروب فعل برأسي ما فعل. في الركن يجلس شيخ شديد الشبه بتوفيق الحكيم يلبس جلبابا أبيض, قلت : إنه المشروب لكن حين أمعنت النظر فيمن يجالسه رأيت عبد الناصر في هيئة شيخ أزهري معمم تتدلى من يده مسبحة تكاد تلمس الأرض. تظهر عمامته علامات المشيب الشهيرة على فوديه, أسرعت خارجا باحثا عن يقين هل أحلم أم سكرت؟ وجدتني ما أزال بالشارع.. رأيت الورش والمعارض وأصدقائي أصحاب الدكاكين, دخلت ثانية ولم أجلس.. هذه المرة كان الجميع يتحلقون في دائرة كبيرة يتهامسون بود, وقف يوسف إدريس ببذلته الرمادية اللامعة وشعره الأبيض ليصب كوبا للعقاد.. لن أطيل عليك.. كل من رأيتهم كان إما كاتبا أو مغنيا شهيرا.. حتى أن المازني أعلمني أن الوالد كان لا يبرح هذا المجلس قبل تعبه, متى وكيف لا أدري, كنت دائما عند نهاية جولتي وأنا صغير أعود لأجد أبي جالسا في مكانه منكبا على العمل .. كنا نعود معا للبيت فلا أراه يخرج ثانية.
انتبه طارق من ذكرياته على صوت مصطفى ضاحكا : 
- أخذتني حكايتك بعيدا عن الدنيا والشارع مع أنك تحكي عن الشارع, ولكن ألست معي ان هذا المشروب هو نوع رديء من الخمور؟ لم أكن أعرف أن رأسك خفيف لهذا الحد. 
- لا والله .. لم يكن خمرا .. أنا على يقين من ذلك, لهذا أردتك معي اليوم شريطة أن يمتنع أحدنا عن الشرب لنرى ماذا سيحدث. 
رد مصطفي وهو يهرش جبينه : 
- لا أعرف هل سأسافر غدا أم لا .. ولكن إن لم أفعل سيكون لنا لقاء هنا. 
- اسمع يا مصطفى.. هي في كل الأحوال أختك. ومن قبل ومن بعد من يحمل قربة مخرومة تخر على رأسه, لذا يجب أن تسافر وتحضر الفاتحة وسطهم.. أنت رجل العائلة يا أخي. 
وجدت الكلمات طريقا ممهدا برأس مصطفى .. فليسافر. ابتسم بمرارة لصدى كلمات صديقه الأخيرة "مهما يكن .. أنت رجل العائلة". 
* * * 
وكأن ما لاقاه طوال ساعات اليوم لم يكن كافيا .. بدأ الصداع خفيفا في مؤخرة الرأس, مع صعود كل درجة سلم يزداد الدق عنفا. لمح باب الشقة المقابلة يغلق بلطف قبل أن يصل لشقته, الصداع وتفكيره في نهاره.. الجنازة والفردوس وطارق .. وقف طويلا يجرب كل المفاتيح قبل أن يطاوعه الباب وينفتح. 
بدأت مطرقة الصداع عملها الرتيب, دقات أشبه بدقات القلب تحطم رأسه, وكأن قلبا ضخما سكنها, لم تفلح المسكنات وفنجان القهوة في فعل شيء.. يأتي الألم الرهيب من خلف الرأس ليتجمع بمنتصف الجبهة, أطفأ سيجارته فخف الألم قليلا ليعود بعدها أشد.. تذكر آخر مرة عانى فيها من هذا الألم الغريب عليه .. زاره بعد تجربة فاشلة عاشها قبل أن يرتبط بزينب.. 
ساعتان كاملتان من الصداع مع عدم الفهم. جارته التي تحاول اصطياد لحظات تكبل فيها عقله.. تقنعه بفيض أنوثتها وفي الوقت ذاته عفتها, محاولةً اقتناص لحظة يعترف لها فيها بعشقه.. احتمالية تجهيز البيت لتصبح هي سيدته .. احتضنته بعنف طالبة أن يعترف في أذنها بحبه.. تعتصره بقوة وترتمى على الكنبة وهي تحضنه.. فيقع فوقها بكامل ملابسهما.. يرى سرعة دوران نني العين, تلاحق أنفاسها تلفح وجهه, وفي قمة انهماكها تهمس بلوعة أن يتركها.. تقوم باكية.. لا يستوعب عقلها ما فعلته منذ لحظة .. تقترب من الباب مزمعة الانصراف .. يهدأها بكلمات قليلة .. تطول وقفتها أمام الباب دون أن تمد يدا لتفتحه .. يخمن أنها تطلب وداعا صغيرا.. يفكر في قبلة حانية خالية من الرغبة .. يحتضنها فتتعلق به بشبق عاصف, يتعجب من قوة ذراعيها.. ليسقطا ثانية في نفس المكان بنفس الوضع السابق, تعاود كرها وفرها, يد تحوطه ويد تدفعه بعيدا.. شفاه تهمس وتصرخ بكلمات متناقضة.. "أحبك" .. "اتركني" لتعود لتقف باكية…. كان هذا أقصي وأقسى صداع مر بحياته. لم يحاول حتى أن يبدل ملابسه.. ارتمى على السرير وترك نفسه يغوص في سرداب أسود عميق.
* * * 
لم يختبر إحساسا بالضآلة كما حدث بالأمس. استيقظ لاهثًا ممسكًا رقبته, شعر بفقرات عنقه تتحطم.. فتح عينيه بصعوبة واعتدل على ظهره ليهدأ تنفسه قليلا.. جو غرائبي يغلف تفكيره.. حاول أن يتذكر تفاصيل الحلم – الكابوس – فلم يتذكر شيئا, رائحة الحلم بأنفه رغم هروب التفاصيل.. مد يدا متكاسلة إلى الهاتف.. الأرقام الصغيرة على الشاشة تعلن الثانية عشر ظهرا. لم ينوِ النوم حتى هذه الساعة.. ضاع اليوم ولن يذهب لعمله.. كان قراره قبل النوم أن يذهب ليستأذن في الخروج مبكرا ساعة. يوم غياب جديد, وتأنيب من المدير قادم لا محالة.. رغم توقع التأنيب سرّه عدم الوقوف أمام مديره طالبا الإذن بالانصراف المبكر.. 
مرّ اسم زينب برأسه, اسمها فقط يبعث وهجا منيرا برأسه.. تلتئم انكسارات روحه, هكذا سيستطيع أن يراها اليوم عند خروجها من العمل. قام ليعد فنجان القهوة الصباحي.. قفزت تفاصيل الحلم كلها فجأة .. أسرع يصب القهوة. فتح صفحة جديدة في الأجندة الحمراء التي خصصها للأحلام منذ قومه القاهرة.. في رأس الصفحة كتب "الحلم 67" وبخط أصغر على السطر الثاني "15 مايو 2011 ". 
"بدأ الحلم بالظلام.. عينان كبيرتان تلمعان وسط الظلمة.. سواد مقبض يسيطر على جو الحلم.. تشع العينان ويزداد بريقهما, فيظهر الوجه.. وجه بني لثعلب بلحية مدببة.. يحفر بقدميه الأماميتين الأرض بجنون .. تتسع الحفرة تحت السلك الفاصل بين الثعلب وذلك الكائن الأبيض بالداخل.. تتضح الرؤية فأرى الكتلة البيضاء تتشكل في هيئة دجاجات فزعة.. تتقهقر مذعورة للخلف فتلتصق مؤخراتها بالحائط.. ترقد الدجاجات ببلاهة منتظرة مصيرها المحتوم دون حركة أو صوت. تغلق عيونها باستسلام, يتأهب الثعلب للهجوم.. يفرد ساقيه الأماميتين ملصقا صدره بالتراب, ويبدأ التسلل.. ترتفع الضجة بالخلف.. لم أر نفسي بالحلم حتى الآن وإن كنت أشعر بالتهديد.. تقترب مشاعل متراقصة اللهب.. تهتز ملامح حامليها مع اهتزازها.. تتحول فجأة وجوههم إلى الشكل المثلث.. ترتفع الآذان الصغيرة المدببة وتنبت اللحى, تتداخل المثلثات وتزداد لزوجة الظلمة, يعم السواد. أعود لأرى المثلثات تتجمع وجها واحدا تلمع عيناه بالظلام. ليعاود الحلم بدايته من جديد.. عدد لا نهائي من التكرارات تمرق بسرعة البرق.. وفي كل مرة أرى الرعب نفسه في عيون الدجاج, دأب الثعلب في الحفر.. لكن بشاعة وجهه تزداد مع كل بداية.. تفوح من أنيابه رائحة نتنة.. تكبر الأنياب وتسيل منها الرائحة فأعجز عن الرؤية.. تخنق الرائحة روحي.. يرتفع صرير الفكين وينفرجا باتساع, تغوص رأسي في الحلق العفن.. وأسمع تكسر عظام رقبتي". 
انتهى مصطفى من الكتابة ليجد قهوته باردة.. يشربها دفعة واحدة ويعود للكتابة. 
تعليق على الحلم : 
- لم أر زوج أختي المرتقب رغم شعوري اليقيني بوجوده بالحلم. 
- لا أعرف على وجه التحديد إن كنت أنا إحدى تلك الدجاجات لشعوري الشديد بالتهديد وتكسر رقبتي, أم كنت مراقبا ليس إلا؟. 
وكيف تحول صيادو الثعالب إلى ثعلب كبير. 
قام ليتصل بزينب.. لينبهها أن تنتظره أمام مقر عملها, رنين متواصل على الطرف الآخر.. عاود الاتصال ثانية دون إجابة, حدّث صورتها بخياله: "أين أنت يا زينب؟ لماذا لا يحمل هذا الهاتف سوى الكلمات الصادمة؟". تذكر كلمات الأمس عن رجل العائلة فقام متحمسا. ملابسه متناثرة مبعثرة بإهمال على أرض الطرقة المؤدية للحمام, ترك جسده لتدفق الماء, ما يشغله الآن الاتصال بها.. لا يضمن المواصلات التي ستحمله إليها.. قد يتأخر عن موعد خروجها فتذهب للبيت دون لقائه. 
من أين له بماء غير المنساب على جسده.. ماء بمواصفات خاصة تخترق الروح وتغسل ما بها من مرارة, تمسح ما علق بها من غبار الضآلة وتراكمات الإحباط واليأس. ابتسم لوجهه بالمرآة, "ماذا إن تركت هذا كله وذهبت لفردوس طارق, السكر دون خمر" مسح نقطة دم متجمعة على ذقنه إثر الحلاقة وخرج عاريا للدولاب, بذلة المناسبات الداكنة.
أعجبه الشعور بالعري فلم يقاوم التسكع بالبيت دون ملابس.. أخّر ارتداءها حتى ينتهي من كي القميص.. عادت صورة زينب فأسرع يرتدي ملابسه.. خجل أن ترد عليه هكذا دون ملابس, وإن كانت لن تراه. 
- أهلا زينب. لحظة صمت .. وانساب صوتها ببحته المميزة التي يعشقها : 
- أهلا مصطفى.. لم أستطع الرد من قبل .. كنت بعيدة عن الهاتف. 
لمس بصوتها مسحة اختناق.. قبل أن يسألها بادرته : 
- هل سأراك اليوم؟ 
لم يتوقع السؤال .. هو من أراد أن يفاجئها بحضوره. متى علمت بسفره وهو نفسه لم يمر على معرفته بالسفر سوى نصف يوم؟ 
شرحت له في عجالة كيف أن أباها – عمه – استنكر ما يحدث.. كيف نام كمدا من أفعال نضال .. ودون علمه .. رجته أن يزور عمه ليشرح له ما حدث ويشعره أنه لا يزال كبير العائلة. 
حتى زينب, ملاذه الأول والأخير, تنتابه الحيرة أمام كلماتها, هل يخبرها أم يصمت ويواج غضب عمه؟ "آه يا عم لو تدرك أننا في الهم (كبار العائلة)". 
- سأحاول قدر استطاعتي اللحاق بموعد خروجك.. انتظريني. 
* * * 
تحول الطريق المترب في مدخل البلدة إلى أسفلت لامع.. بعض العمارات متعددة الطوابق شاهقة الارتفاع نبتت على جانبي الطريق.. حتى البنايات القديمة تلونت بدهان كريمي اللون لتتناسب والجو العام للطريق, أشجار الظل ونباتات الزينة تتوسط الرصيف المطلي حديثا.. لكن شيء ما يجثم على الأنفاس, شيء رآه متمثلا في الشرود المغلف للوجوه, الملامح تمتزج بأحاسيس الكآبة الرتيبة .. تبدلت الأبنية ولم تتغير وجوه قاطنيها. 
كان يمني نفسه بركوب عربة حنطور من الموقف, تخيل نفسه ممسكا يدها يساعدها على الصعود.. يدق قلبه مع دقات حوافر الخيل, لما لم يجد استسلم لأول سيارة أجرة وقفت جواره.. استفسر من السائق عن غياب عربات الحنطور, علم أنها تقف الآن بالقرب من الكورنيش, صارت من مستلزمات السياحة, حناطير تراثية تؤجر بالدقائق للعشاق.. يختفون داخلها بعيدا عن الأعين المتلصصة. 
سرحت عيناه مع لون البنايات الجديد, امتدح روح التجميل التي طالت البلدة أخيرا.. منتظرا من السائق الزهو بما حدث.. صدمه السائق: 
- وهل تصدق؟ أنت بالطبع تعلم ما وراء هذا 
- وهل للنظافة تفسير آخر غير أنها نظافة؟ 
قهقه الرجل .. ترك عجلة القيادة وضرب كفا بكف: 
- هي ميزانيات يجب أن تصرف, وعادة لا يجدون ما يفعلون سوى دهان المدهون ورصف المرصوف.. يقتسمون الأموال مع المقاولين ويلطخون الدنيا بهذا الطلاء.. فتنتفخ كروشهم. 
- وليكن.. هي خطوة على الطريق, وفعل شيء أفضل من عدمه. 
ازداد تعجب السائق من منطق مصطفى.. سأله : 
- من أين جئت؟ 
- من القاهرة 
- بالتأكيد لا يوجد هناك طوابير عيش أو أزمات معيشية. 
ابتسم مصطفى ليخفي مرارته وسأل السائق فجأة: 
- هل ما زالت النساء هنا تربي الدجاج بالمنازل؟ انهمك السائق في الإجابة .. إيضاح ما آل إليه الحال.. سرح مصطفى مع الطريق ولم يكن ينتظر أي إجابات. 
* * *
قال لزينب : 
- توقفي عن لومي, تأنيبي, لست من يستحق اللوم؟ 
لاحظ انفعاله وحدة لهجته معها فداعبها مبتسما : 
- لومك يدمر ما بيننا, إن لم تتوقفي سأهجرك بلا عودة. 
- إن هجرتني سأمحوك من عقلي وقلبي للأبد. 
- وهل تقدرين؟ 
- وهل ستفعل؟ 
أوضح لها الخطوات التي اتخذها في سبيل بناء عشهما, إعادة تهيئة البيت ليتناسب مع حلمها عن بيت الزوجية, إسراعه بالتجهيز ليعجل الزفاف. ابتسمت بعشق: 
- إلحق عمك.. قبل أن يصل الموضوع معه لطريق مسدود, قبل أن يركب رأسه ويفعلها. 
- يفعل ماذا؟ وكعادتها معه لا تتم جملتها .. وعليه – كما تعود أيضا – أن يستنتج ما أرادت أن تقول.
أطفأ سيجارتين قبل أن يتم قهوته, هو يوم القهوة الباردة, رداءة البن واتساخ المفرش عكرا مزاجه .. بدا عدم الاهتمام بالنظافة واضحا في كل تفصيلات المكان, تغير الحال خلال السنوات الأخيرة.. 
اختفت الحديقة من أمام الكازينو, كانت المتنفس الوحيد للعيون قبل أن تحتلها مجموعة ترابيزات لمطعم كشري مجاور, حلت زجاجات الشطة والدقة مكان الشجيرات الصغيرة, وعلى الأرض تناثرت أغطية بيضاء لعب الأكل, صدمه التناقض بين مدخل المدينة وأطرافها, هنا اعتاد أن يقابل زينب, يتذكر بداياتهما معا كعاشقين, أول لقاء, لمسة يد, تصريح بالحب.. يعدها خيانة للمكان والذكرى إن ذهب معها لأحد الأماكن الجديدة ذات الأسماء الأجنبية, والتي امتلأت بها البلد.
أراد أن يسأل الجرسون العجوز عما حدث.. لكنه يتوقع الإجابة.. لم يعد المكان يجذب سوى أمثالهم من الباحثين عن الذكريات. 
حين ودعها قرر عدم العودة لهذا المكان أبدا, كذلك عدم الذهاب لمكان آخر جديد. تركها واستسلم لفكرة السفر دون الذهاب للبيت, هل حقا ينتظرونه؟ فليقولوا عنه ما يريدوا لكنه يرفض ما اتفقوا عليه, فليتحملوا العواقب وحدهم. 
قضى ساعتين متجولا وحده بمحاذاة النيل, عادته القديمة التي لم يمارسها منذ سكنه القاهرة, النيل هنا يملك وجها آخر.. مذاقا بكرا.. رائحة هواء طازج لا يملكها نيل القاهرة. سند رأسه على زجاج الشباك, السيارة تنطلق باتجاه الرجوع.. العودة لبيته بالقاهرة, فكر فيما سيقوله لهم غدا عبر الهاتف إن فكروا في الاتصال به أو لومه, هل يعتذر أم يجاهر برفض الزيجة؟ بالتأكيد ما دام في الأمر لوم فسوف يتصلون! 
قرر أن يتصل بعمه معتذرا عن عدم ذهابه وعن كل ما يحدث.. طالبا منه تحديد موعد قريب للزفاف وإن لم تكتمل تجهيزات بيت الزوجية؟ 
تتابع أعمدة الإنارة.. وأشجار الطريق في جريها السريع أمامه سرّبا له إحساسا بالنعاس .. قفز الحلم إلى رأسه فأغمض عينيه وراح يتخيل نهاية أخرى … 
"بعد أن تتهشم رءوس ورقاب بعض الدجاجات, تتحول الطيور المتبقية إلى نسور ضخمة.. ترفرف بأجنحتها الكبيرة فترتفع حاملة العش, منطلقة في البراح الفسيح, تجمع شتاتها وتنقض بمناقيرها الحادة على وجوه حاملي المشاعل, تفقأ عيونهم قبل أن يتحولوا إلى ثعالب, تسيل الدماء على الوجوه, يحاول كل منهم في يأس التقاط عينيه ليضعهما بوجهه, فتسقط المشاعل من الأيدي, ويمتلأ الجو برائحة الشواء".

الأحد، 5 يونيو 2011

اللغز


 "ما هو الشيء الذي يشبه تمامًا نصف البطيخة؟" كنت أتصفح إحدى مجلات الأطفال الملونة, بالطبع حللت كل الألغاز الموجودة مثل : "له أسنان ولا يأكل" أو"شيء تأكل منه وتشبع ولا يدخل بطنك".. إلا هذا اللغز, وقفت أمامه متحيرا لبضع دقائق, ولكي لا أفتح مجالاً للشك في قدراتي العقلية – حاشا لله أن أكون غبيًا – بحثت عن صفحة الإجابات, صدمني الحل, فبعد كل هذا التنقيب في عقلي عما قد يشبه نصف البطيخة تماما, وجدته أبسط مما تخيلت, كان الحل الوحيد المنطقي متناهي البساطة :"نصفها الآخر"!!

تذكرت فشلي في الإجابة وأنا جالس في الحديقة أمام البيت, وقع هذه الجملة لطيف "جالس في الحديقة أمام البيت".. هذا البيت ليس أكثر من شقة متواضعة البناء والتشطيب بأحد التجمعات السكنية الجديدة, ميزته الوحيدة هذه الحدائق المنتشرة بكثرة, كانت هناك ميزة أخرى منذ عدة سنوات: أن تستطيع شراءها, الآن تخطى سعرها حاجز المائة ألف بخمسين ألف كاملة. كنت أتخيلها حديقتي الخاصة.. الجو ربيعي دافئ.. تمر أحيانا نسمة رقيقة تحرك أوراق الأشجار, خشخشة الأوراق لا يضاهيها سوى زقزقة العصافير في أوقات شروق الشمس وغروبها. أجلس تحت إحدى الشجيرات على مقعد بلاستيكي وأمامي ترابيزة أضع عليها كوب الشاي وكتابا آخر غير الذي في يدي. اتساع الحديقة وبعدها عن نهر الطريق يحيط المكان بخصوصية رائعة. العابرون رغم قلتهم يسيرون على بعدٍ كافٍ من مجلسي, بحيث أستمر في القراءة دون الشعور بنظرات التطفل.
العيب الوحيد كان سكان العمارة نفسها, إذ أنهم في نزولهم وصعودهم يلقون التحية, فأبعد عيني عن الكتاب مبتسما مرة.. مجاملا بهزة رأس مرة أخرى, وغالبا أرفع صوتي صارخا : "اتفضل", حتى أن أحدهم "عم صلاح" قَبِل دعوتي وتفضل جالسا أمامي.
انتهينا من السلامات التقليدية.. والسؤال عن الصحة, ولم أجد موضوعا مشتركا نتحدث فيه معا غير مشاكل الأسعار التي تقفز يوميا مرتفعة بجنون .. أزمة الخبز.. الغاز.. المظاهرات التي لا تنقطع, أوضحت له – محاولا أن أطمئنه وأطمئن نفسي -  أن الأمل كبير في الله وفي الحكام الجدد, قد نشعر أحيانا ببعض الأزمات, لكن ألم تكن تحدث بنفس تكراراتها؟ وفي مواعيد محددة اعتدنا عليها؟, يوافقني الرجل بهزات من رأسه مصدقا على كلامي.. يذكّرني بضحايا الخبز في العام الماضي. في الحقيقة لم أشعر بتلك الأزمة, إذ أني تعودت من أعوام أن أشترى الخبز السياحي مبتعدا عن الطوابير ورداءة الخبز الحكومي المدعوم. ومن وجهة نظر اقتصادية بحتة أرى الخبز السياحي أرخص, ذلك أني تجرأت – وفي يوم أجازة – واشتريت الخبز المدعوم .. رميت نصفه ولم أستطع بلع النصف الآخر بعد ساعة واحدة من شرائه..
سرّني التعرف على "عم صلاح" وجدته إنسانا مرحا خفيف الظل, لا يستنكف أن يسخر حتى من نفسه ومن حاله… بعد عدة جمل عن صعوبة العيش وقلة النقود قال بتلقائية :
سأحكي لك موقفا حدث معي منذ يومين, تعرف سيادتك؟, الولد الصغير أحرجني الصبح عند خروجي. ماذا طلب؟ طلب مني شراء بطيخة. قلت في عقل بالي : إن عدت بنقود تكفي الأكل, الوجبة الأساسية, فهذا فضل وعدل من الله .. لم يخب الله ظني, أملي في  وجهه الكريم, مر اليوم على خير فاشتريت للعيال بطيخة متوسطة الحجم والسعر, ربك مع المنكسرين جابر.
بعد أن أكلنا قلت : نحلّي.. كسرت البطيخة .. صدمني لونها الوردي الفاتح القريب من البياض. لِفت يا مولانا, ضحك مَن ضحك من العيال وزعل مَن زعل. تركت نصفها ليبرد وقسمت الآخر علينا, كان طعمها – لا أراك الله مكروها – ماسخا كالخيار .. قلت مازحا ومفوضا أمري لله : هذا هو البطيخ وإلا فلا.
الولد الصغير – ابن الخبيثة – بعد أن انتهى من القطعة في يده, راح ينظر نحوي وينحت القشر بأسنانه, ظننته ما زال جائعا, نبهته أن ما يفعله لا يصح, خطأ, قال بتلقائية مصطنعة: لا يوجد فرق في الطعم, ونظر لإخوته متساءلاً: هل لاحظ أحدكم فرقا بين قشرها ولحمها؟
استجمع الولد الثاني شجاعته : والله أكلتها باللب, فهو أبيض طري ولم أشعر أن بها لبا أصلا.. نفس اللون والطعم.
وهل يفوّت الولد الكبير الفرصة للتندر, وقد لاحظ صمتي تجاه كلام إخوته؟ قال لأخيه : لماذا أكلت اللب. ونظر تجاهي : صحيح يا والدي, لو زرعنا هذا اللب الأبيض ينتج بطيخا أحمر أم أبيض كأبيه بالوراثة؟
انتابتني الحيرة, ليس من سؤال الولد, لكني تمنيت أن يأكل العيال شيئا اشتاقت له نفوسهم. وطبعا لم أكن أملك ما أشتري به واحدة أخرى قد تكون حمراء أو لا تكون.
هنا أنعم الله عليّ بالفكرة.. ستستغرب والله يا أستاذ, قلت لهم وأنا أمثل الجدية : تعرفون أن النصف الآخر سيكون غير هذا تماما, هذا ما اعتدناه في البطيخ, قد يماثله في الشكل, في اللون, أما الطعم فهو بإذن الله شيء آخر.
تعجب الأولاد, ابتسم الكبير, أما أصغرهم فبدا عليه عدم التصديق, قال متبجحا: أتريد إقناعي أن نصف البطيخة بطعم مختلف عن النصف الآخر؟!! كيف وقد كانت واحدة, قسمها السكين نصفين؟!
قلت : هل جربت النصف الآخر؟
رد متعجبا : لا …
فقلت : اصبر وسترى, لا تحكم على شيء قبل أن تجربه.
لم أرد أن أقاطع "عم صلاح" , طريقته في الحكي وتعبيرات وجهه والإشارات التي تصحب الكلمات كانت تمتعني .. غير أني تذكرت لغز نصف البطيخة فابتسمت وتركته يكمل.
أحضرت النصف الآخر وقسمته كالأول.. أقنعتهم باختلاف المذاق, وإلا بماذا تفسر استغراقهم في القضم بل التلذذ, كنت أيضا حين ألتهم قطعة أرفع صوتي مبتهجا : الله … لذيذة.
استمر صمتهم ولم أسمع التعليقات الساخرة السابقة, لا أعرف هل وضع الله بها سكرا.. أم أنه – سبحانه – جعل الحلاوة في أفواههم؟ أَم أن العيال اقتنعوا بكلامي فظنوها كذلك؟
تركني عم صلاح وقام يقضي بعض حاجاتٍ لبيته, جلست محتارا, هل حقا اختلف نصف البطيخة, أم أن الرجل يتصف ببلاهةٍ ما أقنعتْه بذلك؟ أم أن نصف البطيخة – كما أعلم ويعلم الجميع – يشبه تماما نصفها الآخر؟


27 مايو 2011

رائحة البرتقال


البراح الفسيح, رائحة زهور البرتقال تصطف على جانبي الطريق, ولون السماء الأصفر المائل للحمرة, لم يدر أهو البرتقال أم أشعة الشمس تنطفئ في صفرة الصحراء. ضغط دواسة السرعة بأقصى ما تستطيعه قدمه, رغم انحناءات الطريق ثبت عجلة القيادة بذراعين متخشبتين. يقترب اللون بسرعة خاطفة من عينيه, تزداد إشعاعات الضوء مع سرعة السيارة, يزيد تصلب ساعديه على عجلة القيادة, يغمض فجأة عينيه, وكالعادة يستيقظ من الحلم مع صوت الأذان.
ذات يوم, فيما مضى من أيام الشباب, كتب بداية إحدى القصص هكذا : (ساعة من آخر ساعات الأحد, فيما بين العصر إلى الليل, والشمس في عطائها الشفقي تضع برتقال الغصون الراجفة في فراغ السماوات الرحب…), لكنه لم يستطع كتابة تفاصيل الحلم, وألف قصة صور نفسه فيها وهو ينتظر فتاته أمام مدينتها الجامعية, وغلف المنظر بتلك اللوحة البرتقالية للغروب.
في نزوله اليومي من بيته, وعبوره الطريق الوحيد الفاصل بين القاهرة ومدينته, ووسط انحشاره بين أجساد الراكبين بالميكروباص, يتذكر الحلم, يرى الطريق نموذجا حيا مثاليا للطريق المرسوم بأحلامه. يرى- فيما يرى المستيقظ -  أن هذا الحلم نهايته المحتومة, فلم يحاول حتى اليوم  تعلم قيادة السيارات, يؤكد لنفسه أن عزوفه هذا ليس خوفا من أجل محتوم, بل رعبا من فكرة الانتحار, وهل بعد كل هذاالعمر, واحتمال تكرار نفس اليوم بسخافته وملله, بعد هذي المعاناة,  يفعلها!
ليته اختبر ذلك الإحساس منذ البداية, أول عمره .
اليوم, بعد استلامه مكافأة نهاية خدمته, استلم السيارة, وقف أمام بيته ينظف الزجاج, يصقل جسدها المعدني, محاولا أن يقنع نفسه أن يعيش كالآخرين.. كمن يقودون السيارات.

راية الوطن

وحيدٌ على مقعد حجري بين موج من الناس لا يستقر, كعادته في ذهابه اليومي للعمل يجلس هنا ساعة أو أقل, وعند عودته يطول به المقام في صحبة النهر, يتكرر في ساعة الصبح شكل الحافلات تفرغ جوفها خليطا بشريا يتألف من كتل غير مصقولة, كائنات لا يستطيع أن يميز فيها الفروق بين الجنسين, تتغير هيئة المارين أمامه وتبرز ملامحها باختلاف ضوء النهار, الفروق الجلية بين الجنسين, عند عودته عصرا يرى الفتيات في تفجرهن اليومي نحو الأنوثة والأكمام المشمرة عن سواعد الشباب – رغم برودة الجو – مبرزين عضلاتهم المنحوتة.
تبدأ السحب في الركض ساحبة خلفها المساء ليسيطر الظلام كعادته اليومية على المكان, تتشكل أمامه لوحة الغروب, تذكّره بنهاية نهاره الخاص, نهاية أحلامه ومشاريع عمره الصغيرة التي لم تنجز, يقف مستندا على السور الحديدي ليرى النهر عن قرب.
ضحكة داعرة تأتيه من خلفه, تأخذه من نفسه, يلتفت حوله باحثا فلا يرى أحدا, يحدث نفسه : هو الليل يا أيها الرملي يدخل, فابدأ العيش .. ابدأ العيش. يشرع في السير موحِّدا بين ليله الخاص بسنينه الخمسين وليل القاهرة.
الحمامة البيضاء .. بعد أن أفزعتها أبواق السيارات..  تستريح على قبة الجامعة. تباغتها دقات الساعة فتفر مذعورة محلقة باتجاه النهر, تتذكر ما روته أمها في حكايات المساء عن الفراغ الفسيح للميدان, حيث كان يطيب لها ولرفقتها متابعة الواقفين الملتفين حول الكعكة الحجرية, ترفرف فوق كوبري الجلاء مستنشقة البراح, تفاجئها الطلقات .. تباغتها فتكسر أحد جناحيها, يزداد الألم, نزف لا تراه يحوّل وجهتها نحو الشمال ويحوّل لون الجناح الأبيض المصاب للون الدم. تنقطع الأنفاس .. فلا تجد بدا من الاستراحة قرب النهر.
اخترقت برودة المعدن عظامه, كم منعه هذا السور الحديدي من ملامسة قدميه الحافيتين مياه النيل, لمح الحمامة على الفاصل الحجري للسور تلتقط أنفاسها, يكاد يسمع نبضات قلبها المضطرب, اقترب محاذرا .. محاولا طمئنة رأسها الصغير الذي يدور يمنة ويسرة باحثا عن مأوى آمن, ثبت في مكانه حتى لمح في عينيها سكينة ما طمأنته .. شجعته .. مد كفيه لتستسلم له, تشُبع الريش بلون الدم دله على مكان الإصابة.. أدرك رغم قلة خبرته بالطيور أن بالعظام كسرا, خطت خطوات صغيرة لتقف على كفيه, رفع ذراعيه للأعلى يساعدها على التحليق من جديد, قال : دجّنتك السنون فلم تحاول مثلها أن تحلّق.
طنين منغّم يصل لأذنيه, لمكمن الذكريات برأسه, يمرق طيف الذكرى.. هتافات الطفولة منددة بالعدو أيام كان هناك عدو ملموس ظاهر للعين, هتافات تصدر عن حناجر قوية رغم براءتها الطفولية, لا تحمل معنى ثوريا وإن لم يكونوا يلحظون ذلك, يبتسم للذكرى : “موشى ديان التش التش ضرب مراته بطبق المش”!! أول هتافات يؤلفها مع أصحابه فحفظها وصدأت بعدهاالحناجر, يرتفع الطنين مع توافد الحشود محولة أسفلت الطريق إلى نهر بشري, جرفه التيار, فترك نفسه, تمتزج الكئابة المنتشرة حول رأسه برائحة يدرك أنها غازات خانقة مسيلة للدموع ولم يكن تنفسها من قبل, غيبوبة ما قبل الموت أو حيرة ترقّب الخروج للحياة, الأنفاس تلهث .. تنقطع, وتحمر العيون, يرى “محفوظ” سائرا نحو بيته بابتسامته الأليفة حاملا علم مصر, يوشوشه الخال عن فاطمة, ويشير نحو الجنود التي تحيط تدفق النهر, يخبره عن عبد الودود المرابض هناك عند الحدود, ينزلق كفه لجيبه متلمسا برفق عملة معدنية صغيرة تركها له أبوه قبل أن تخطفه النداهة وتأخذه إلى آخر الدنيا, يدوّي صفير القطار فلا ينتبه, امرأة من حروف الغيطاني ترنو إليه, تشير بعينيها أن : هو أنت.. أنت من أنتظر, يسير إليها بكل ما تحمل قدماه من رمال, بكل ما يحمل القلب من صبابة ووجد, يحتويها بذراعيه ويسند رأسه على صدرها, فيشم رائحة أمه, تلتقي العيون شارعة في البكاء, تربت كفه وتطمأنه.. تنبهه بخوف الأم ألا يلمس اللعب الملقاة بالطريق, تخبره أن طائرات العدو تلقيها بالشوارع لتفتت أجساد الأطفال, يطمئنها أنه يصنع ألعابه بيديه من أغطية الزجاجات, تتوالى لقطات الطفولة.. رسم لوجه حبيب بحبر أزرق داكن على واجهات بلوكات المساكن الشعبية, تحوطه كلمات بلون الدم : سنبكيك حتى الموت .. إلى جنة الخلد يا ناصر .. إلى جنة الخلد. يلمح جاهين فاردا ذراعيه معانقا من حوله : بالأحضان يابلادنا يا حلوة… يفتح ذراعيه باتساع المدى متأثرا بالكلمات, يصرخ بوجد: وحشتيني, تنساب الرمال من تحت إبطيه, ليعود حرا طليقا خفيفا ممتزجا بالجموع, يرى البعض تخبطه في نشوته العارمة فيحملونه مرهقا ليريح جسده على ضفة النهر, يرقد, بمحاذاة وجهه يراها, الحمامة البيضاء, بجسدها الناصع, يلمح اسوداد جناحها الآخر.. يرى علامات إطار سيارة دهسه بخوف مذعور جبان. يثقل جفناه, تقل الرؤية, يفرد ذراعيه يستحثها للمقاومة, تلمع عينا الحمامة..  تحاول الرفرفة من جديد, يرى صعودها بجسدها الأبيض وجناحيها الملونين ارتفاعا يشكل راية الوطن.. يبتسم مزهوا بانتصارها, يغمض عينيه مطمئنا … ويستريح.
3 مارس 2011

حال الخلق

زياد  ابني بيسألني .. عن الدنيا وحال الخلق
وعن أدوات خلق بيها الإله كونه
وكان نفسه يكون موجود ف ساعة الخلق
وعن عظمة إله قادر ف لحظة تكون جبال قايمة
                                    وبحر وشمس مالية الكون
وليه مع إن سبحانه ..
              نفخ من روحه طين آدم بكلمة كن
فصار إنسان وصار عاقل
لكن غافل ولسه إيده مكتوفة
وعن بيتنا ومين بانيوه
وليه مليان صور ع الحيط …
فراعنة وفن إسلامي وفن حديث
وف الحمام مافيش ميّه… وفيه بانيو
وياما كتير يفاجئني .. سؤال خاطف
عن الجارة اللي ما بتمشيش…
يشوفها كل يوم نايمة وعيانة
ومش عارفة تروح لطبيب
ومش لاقية تجيب العيش.
وعن عمو اللي ف الشقة اللي قدامنا
بيمشي ببطء .. وهو شباب .. ماهواش طفل
وليه قاعد ومش شغال.
وعن حالنا .. وليه خايفين
وشبابيكنا .. وبوابة حديد بيتنا … بخمسة واربعين ترباس وخمسين قفل.
وليه العقربة بتلدع… وليه ف الأصل مخلوقة..
وليه في ناموس .. وفي تعابين
وليه الخلق مخنوقة.
زياد ابني لانه صغير كما النملة .. بيسألني بـ ليه وازاي وامتى وفين
وانا مااجاوبش
وكل سؤال يدور ف دماغي يلوحني..يلخبطني يبرجلني
وزي ما اكون عامل عملة .. ادوخ م الفكر
وأتحير أجاوبه ازاي
أقول له هانسأل العالم ف يوم الجمعة ف المسجد
أقول له نشوف جواب ع النت
ف صفحة من كتب جدو اللي مالية البيت
أقول له أنا عارف الإجابات لكن لازم….
ناخدها كاملة من عالم
وأنا ف الأصل مش عارف .. ولا داري … ولا عالم
ومتلخبط
أنا الي بقول على نفسي كبير وعرفت
ولفيت سبعميت حته
وشفت وشوش سوادها غطيس
وشوش صفرا .. وحمرا وبيضا زي اللفت
وشفت عيون بتتخرّم
وشفت ودان بتتخزّق
وشفت حلال بيتحرم 
وشفت وشفت لما قرفت
أدوّر جوا عقلي ألاقيه كتاب فاضي
ألاقي مخي متلخبط كطفل ف عمر ابني زياد
واشوف الدنيا نقطة كبيرة مرسومة .. 
وفوقها علامة استفهام
ويتجمع في زحمة راسي تيم كورة
بلعيبة من العلامات
وانام .. واحلم .. بسيّدنا سليمان مات
وساند دقنه فوق عكاز خشب جامد
خشب ناشف ..
نشوفه نقول : أهوه عايش .. أهوه قاعد .. أهوه شايف
وحبة نمل تتجمع على العكاز تزلزلنا ..تفوقنا من السكرة
تكلمنا .. تجاوبنا تعلمنا نشوف بكرة
لكن بصحى وافوق م الحلم
ومش فاكر ولا إجابة
ألاقي نفسي لسه لحد يومنا عجوز ومتحير
لكن بيرن ف دماغي .. هدير طاغي بيسألني ويتحسر
على نفسي ..
             وحال الدنيا
                      حال الخلق.

قالوا لي مصر خلاص .. من عبطي قلت خلاص

ما تزعليش يا بلد .. 
ابني الصَغير قالها
لما الكبار خانوا … 
لما الكرام هانوا
قامت بلد تنتفض 
بشبابها وعيالها
إيه يعني معنى حياة مدهونة بمهانة
صرخة ف قلب الميدان .. حرية وكرامة
قام الشباب ينتفض ..
قال الكرامة نضال .. 
وبدمه اهو نالها
- - - - - -
محلا الورود يا بلد 
مروية جهد ودم
ايدين شباب ع الكيبورد .. 
قالت لنا نتلم
وف الميدان ..
اللي ما كان فيه ريحة من اسمه
تدينا درس كرامة .. 
مش بالقلم .. بالدم
———–
صوتك وحشني يا مصر …. 
من بدري ما سمعتوش
وحشني حسه الجميل
كترت جيوش أبرهة … 
على كعبتك في الليل
قام غصن أخضر طري .. 
شارب حليب أمه
يفتح لنا السكة 
وينورك يا سبيل
الشكل أخضر طري
والفعل طير أبابيل

عاشق


على الرغم من صغر سنه - إذ أن سنواته نصف سنواتي تماما - كان يوسف أنبل من رأيت.. عشقه للحياة.. تفتح عقله بشقاوة محببة.. اتخذته صديقا وزميلا.. يفتح اللاب توب لينجز مهمة سريعة لأبيه، تقويم للعام الجديد يصممه بعبقرية.. تمتزج الحروف العربية بإحساسها التراثي العتيق مع تركيبات لونية حديثة.. أطلب لنا فنجاني القهوة المعتادة.
يبدأ بالسؤال عن أحوالي.. بدفء يرجوني أن أبلغ السلام لابني وكأنه أخوه.. ودون أن أسأله يحكي..
- ذهبت لأبيها أطلب يدها.. أجّل الموضوع إلى أن تتم دراستها!
- هل هي طالبة كلية الآداب التي حدثتني عنها؟ تلك التي تتعامل مع حكايتكما ببعض التعالي وعدم الاكتراث.
- هي.. لكن الجميع يرى أن التعامل يتغير يختلف بصورة كلية بعد الخطوبة والزواج.
أبتسم له وأقهقه بأعماقي، لا أريد أن أتلف أعصابه، فقد ينجح هو فيما فشلت أنا فيه.. أمازحه:
- التعامل يتغير بالفعل، لكن بطريقة سلبية، تتحول البنت، تكون غاية في الرقة, في التهذيب إلى أن تصبح أنت زوجها.. أجارك الله.. إن تكلمتَ مفضفضا معها عن مشاكلك تتهمك بأنك فقدت الرومانسية.. كل ما تقول يصبح خاليا من الرقة.. الإحساس.. وإن تصمت تطالبك بالكلام.. تصفك بالصنم.. هذا إن لم تُتهم بالتكشير والعبوس الدائم.. جملة وحيدة ستسمعها يوميا تكون شعار أيامك ستقول لك: ألا ترى وجهك؟ انظر في المرآة.
- رأي يوافق رأيك، فأنا أرى ما تقول يوميا في البيت بين أمي وأبي.. لكني أراها مناغشة العشاق.. ذهبت للرجل فقط كي لا تسألني هي كل حين عما فعلت ليستمر الموضوع.
أنبهه ألا يراهن على مرور الوقت وتبدل الصفات الشخصية.. كل تلك الحكايا ستصير ذكريات يراها في عقله فيبتسم.. اختلف الزمن، تبدلت حكايات العشق، صارت أكثر عملية.. أوضح له أني وللأسف أشعر بما يعانيه ما يحس به من حيرة وألم.. أراه أعقل من أن ينساق خلف حدوتة كتبت نهايتها منذ البداية.
يرميني حديثه في بئر الذكريات.. أيام كان أغلب العشق من طرف واحد.. نعيش على وهم الحب.. أعود بزمني خمسة وعشرين عاما مضت بل أكثر.. أسأله:
- تعرف المطرب وجيه عزيز؟
- سمعت له أغنيتين.
- يقول : (الذكرى خليها لمّا الجراح تبتسم يمكن أغنيها)… من كثرة الجراح صارت حياتنا سلسلة من الأغنيات.. أوبريتا طويلا.. رغم المرارة تصبح كل ذكرى جزءا جميلا من الحدوتة.. كلمة من الكلمات التي تصطف لتكمل قصتنا .. تاريخنا.
- تعرف يا يوسف لماذا اخترت لابني هذا الاسم؟
- لم تخبرني من قبل، لماذا؟
تترك أصابعي العبث بالمفاتيح.. ألف يدي خلف رأسي ممدا قدمي تحت المكتب وأتذكر بصوت مرتفع:
- كنتُ أصغر منك.. بل بدأ الموضوع قبل أن أعي بدايته.. أنتظر العيد بفرحة أي طفل.. فهو اليوم الوحيد المسموح لنا فيه بامتلاك قدر لا بأس به من النقود.. الخروج للشارع دون السؤال عن كيفية صرف النقود أو عن وقت عودتنا.. تصرفاتنا من وحي عقولنا فقط.. نذهب أينما شئنا.. كانت هي أول من أذهب إليه.. تربطنا قرابة بعيدة.. أنسل هاربا من أصحابي.. وأذهب لبيتهم.. أدعوها للخروج معي.. نلف حول مقام سيدي رمضان.. أشهده في سري على حبنا.. أعاهده بحرقة أن تظل حبيبتي.. أن أحافظ عليها.. نشبّ على أطراف أصابعنا.. ومن خلال الشباك الصغير نصف الدائري نلقي نظرة على الضريح.. على عمامة الشيخ الخضراء .. كنا نتصور أنها رأسه موضوعة فوق الضريح.. نرفع أصواتنا ليسمعنا.. أرضية الشباك ملأى ببقايا شموع النذور الصغيرة.. أختار واحدة انطفأ لهبها قبل أن تذوب تماما وأعطيها لها.. طالبا منها إشعالها حين يحقق الله حلمها.. مرادها، ولا تسألني عن مرادي أبدا، رائحة شجرة ذقن الباشا التي تحتضن المقام ما زالت بأنفي.. ألتقط بعض الفروع الصغيرة ذات الشعيرات الحمراء والصفراء الناعمة.. أهديها لها.. ولا أنسى أن أمرر فروعا أخرى على وجهها تدغدها فتضحك.. أحتفظ بها وسط كراساتي متخيلا أنها تحمل رائحتها.. تحمل ملمس بشرتها الناعمة.. أدعوها لطبق الكشري.. متعتنا الأكل خارج البيت.. عربة ملونة جوار المقام يزيدها إشراقا ملابس الأطفال المبتهجين، معها للألوان مذاق آخر.. للدنيا كلها بهجة أخرى منعشة للروح.. حتى الكشري كان يومها يبدو مختلفا.
يقاطع يوسف تسلسل الذكريات:
- أنت عشت بمكان آخر غير الذي زرتك فيه، عند الحاجّة؟
- هو نفس المكان.. شاخ كما شخنا.. أزيلت عربة الكشري وتحول مقام سيدي رمضان إلى مسجد الشيخ رمضان.
أعود للذكرى.. طبق الكشري.. أحاول استعراض بطولة طفولية أمامها.. أطلب من البائع ملعقة شطة كبيرة.. لم تكن الشطة السائلة اخترعت أيامها.. يملأ الملعقة بالمسحوق الأحمر المشتعل.. يقربه مني.. وقبل أن تصل يده للطبق يصطدم كوعه بأحد الأولاد.. فيطير المسحوق قاصدا عيني.. لا تطفأ مياه الدنيا النار التي اشتعلت.. أرى قلقها.. لوعتها وسرعة تصرفها.. ألقت طبقها المليء باحثة عن أي شيء ينقذ عيني .. ملتاعة تحاول إزالة قطعة الجحيم الملتصقة بي.. أنشغل عن الشطة بتصرفها الحاني.. أراقب اهتمامها بي.. قلقها عليّ.. وأضع تعريفا خاصا بي للعشق أكتبه بين قوسين في رأسي (الاهتمام) أن يهتم بك أحد إلى هذا الحد.. هو العشق يا يوسف.
- ما اسم بائع الكشري؟ لم تقل لي.
- وما دخل اسمه بالموضوع؟ اسمه سيد.
- لأنك حتى الآن لم تقل لي سبب تسمية ابنك.
- كأنك زهقت؟
- لا والله، أنا سعيد بحكيك.. متشوق فقط لسماع النهاية أحاول إعمال عقلي فيما تقول.
- اصبر وستعرف.
- حاضر.
عشنا الطفولة بهذه الطريقة.. عشقي لها واهتمامها بي.. ولا أهتم أن أسألها هل تحبني أم لا.. هل تسأل شمس الظهر طلعت أم لا؟ كأنه واقع، أقنع بما خصتني به وحدي، وكأنها اعترفت لي بالعشق.
نسيت أن أقول أنها تصغرني بعامين.. صارت زميلة أختي في الكلية.. في السنة الثانية.. وكان عام تخرجي من كليتي.. غابت عنا سنة دراسية بتمامها.. رغم امتلاء الكلية بما لذ وطاب من البنات كنت لا أمل السؤال عنها .. الاشتياق لها.. بداية الأمر أخبرتني أمها أنها عند أختها بالبلد.. أختها حامل..  متعبة، ذهبت حبيبتي لترعاها.. أسألها بقلق متي ستعود.. أخبرها بقلقي إزاء دراستها.. فتسهب في وصف تعب الأخت المريضة.. وتتحول لوصف حالتها هي.. وحيدة لا تجد من يسأل عنها! أعدها بالمرور الدائم للاطمئنان.
كلما هدني الشوق.. هزمني.. أجدني بيتها.. متنسما رائحتها في كل ركن.. أجلس وحيدا بغرفتها.. تلك التي حُرّم عليّ دخولها وهي موجودة..
عائدا للبيت كنت.. مرهقا من طول ساعات العمل.. رأيتها بالميدان.. تقف على المحطة أمام المسجد وبين يديها طفل لم يمر على ميلاده أيام.. أقترب محييا.. قبلتُ الصغير في حضنها.. لأشم الرائحة الحبيبة.. أسألها عن الصغير فتقول:
- ابن أختي.
سألت عن أختها وصحتها فأخبرتني أنها سبقت أختها في النزول.. أتعجب من وجود أختها غير الشقيقة عند أمها.. أعلم ما بينهم من جفاء.. أعود للطفل محاولا أن أصل الحديث.. مظهرا شغفا تمثيليا به.. تلاحظ شدة اقترابي منها كأني أداعبه.. تفرد يديها تناولني الصغير.. أحمله ويداي ترتعشان.. قطعة حمراء طرية.. أخشى أن يلتوي في يدي.. أن تسقط رأسه.. أرده إليها معتذرا بجهلي بأحوال الرُضّع.. أسألها عن اسمه فتقول بصوت لا أكاد أسمعه :
- عاشق.
اسم غريب لم أسمعه من قبل.. يعجبني تفرد الأسماء.. تخيل نفسك حاملا اسما لا يحمله في العالم سواك.. أمازحها:
- عاشق الأسامي.. أقصد عاشت الأسامي.. لكن عاشق ماذا؟
ترتبك ملامحها.. تحاول الهرب من الإجابة بصمتها المريب.. ألاحظ ما اعتراها من قلق وارتباك فأكمل:
- أقصد.. ماذا يعشق؟
لم أقصد السؤال عن اسم أبيه كما فهمت هي.. مالي أنا واسم أبيه.. تتنفس بعمق كمن انتُشل من بئر:
- عاشق.. يعشق كل جميل.
أكمل بعدها:
- وياما شفتي جمال يا عين.. لكن لا توجد من هي في مثل جمالك.
تعود لترتبك.. تطرق خجلة.. تستأذن لشراء حاجيات الصغير من الصيدلية.. أقترح أن أصحبها فترفض بكلمات قاطعة حاسمة.. أتركها واعدا نفسي بلقاء قريب وقد ظهرت أخيرا.. ألم تظهر؟
الخطوات القليلة للبيت أقضيها مدندنا اللحن الجميل (واللي صدق في الحب قليل قليل وإن دام يدوم يوم وللا يومين).. عشقي لبيرم يؤكد أنه يقصدنا بهذا القليل.. أعتب عليه فقط لأني أوقن أن حبنا سيدوم لآخر الزمن.
انتظر شقيقتي بشوق لأخبرها عن ظهور حبيبتي المفاجئ.. فرحتي بعودتها.. لا أصبر حتى تستريح أختي من مشوار الكلية.. وهي تلقي الكشاكيل والحقيبة على أقرب كنبة أخبرها.. فتصمت.. تعود بعد قليل لتسأل مندهشة:
- حقا عادت؟ أنت رأيتها بعينك؟
- وماذا كنت أقول.. ألم تسمعيني؟
فتعود لتسأل:
- هل كان معها أحد؟
- لم يكن معها سوى طفل صغير.. ابن أختها.
لا تجد مفرا من أن تخبرني:
- على فكرة هو ابنها هي.. كانت عند أختها ولم تذهب للكلية طوال العام حتى لا يرى أحد انتفاخ بطنها.. مظاهر الحمل على جسدها.. تزوجت من عادل قريبها وزميلنا بالكلية، أختها فقط من علم بالموضوع، حتى أمها إلى الحين لا تعرف.. حتى لا تخبر أباها.. تعلم ما بين البنت وأبيها.. شبه قطيعة منذ تركها وأمها ليعود لزوجته الأولى.
تحكي أختي وكأن إزاحة طلاسم السر ستريحني.. كأنها تخفف عني.. فلا أسمع سوى كلمات تسقط من فهما لا أستطيع ربطها ببعضها.. أتذكر ارتباك فتاتي.. هروبها السريع من أمامي.. صمتها حين سؤالي عن اسم والد الطفل..
يسألني يوسف:
- تزوجتْ هي وأنجبتْ وأنت لا تعلم؟
أجيب بابتسامة وهزة موافقة من رأسي.. ساخرا من نفسي.. يكمل يوسف:
- لكن ابنك اسمه ليس (عاشق).
أضحك.. فقد اختلف تعريفي للعشق.. واختلفت نظرتي لتفرد الأسماء..
- وجدت اسم عاشق غريبا جدا بشكل لا يطاق.. ثقيلا على الأذن.. حاولت تخفيفه قليلا فأصبح اسم ابني محب.. أليس هذا أفضل؟
يسرح يوسف وينظر لي كمن فهم:
- أفضل كثيرا.

الحبل السري

 



كأغلب الحكايات وأكثرها حدوثا وتقليدية.. بدأت الحكاية بإحدى المدن البعيدة.. تنتظر بلهفة خطاباته الأسبوعية يرسلها من القاهرة حيث كليته وعمله.. تحسب الأيام.. تعد الساعات .. مرور الزمن الفائت منذ استلام خطابه الأخير.. متى يرتفع صوت البوسطجي مناديا اسم والدها (ومنه ليد الآنسة …….) سطور جديدة تضاف لقصتهما .. تعينها على تحمل تكرار أيامها.. تعدد النسخ لهذ الأصل الوحيد ليوم يبدأ بالاطمئنان على الطيور وإيقاظ إخوتها الصغار.. رعايتهم بعد وفاة أمهم .. إشعال الفرن للخبيز .. يوم متكرر بكل تفصيلاته الدقيقة المملة أحيانا … 
وجاء اليوم .. الزفاف .. أقيمت ليه العرس .. الأنوار تضيء البلدة الصغيرة .. وتبعث الأمل في أيام قادمة .. تحملهم سيارة الزفاف إلى القاهرة حيث يعيش ويستأجر هذه الشقة الصغيرة ..يتوج شعرها طرحة الزفاف.. لتبدأ حياتي أنا .. أول حرف بأول كلمة كتبها أبي من سطور حياتي.. فوق هذا الفراش الذي أفرد عليه جسدي الآن وعيناي لا تفارق الشرخ الكبير بالجدار .. الشرخ الذي يكبر كل يوم وتتشعب أطرافه.. هذا الشرخ الذي كان سبب اتصال أمي بي صباح اليوم….
جرس الهاتف الطويل أيقظني .. صوتها بالهاتف صارخا على غير عادته .. تطلب العون .. النجدة .. تأمرني أن أجلب معي أحد أصدقائي المهندسين ليرى هذا الشق الذي سيبتلع - كما تقول - البيت وهي داخله.. فتفزعني كلماتها .. أشعر بالبيت يتخلخل يتهاوى منهارا.. ولا يتصور عقلي صورتها تحت الركام.. يرفض العقل الصورة.. فأسرع مرتعبا مرتديا ما طالته يدي من ملابس وأهرول مسرعا إليها..
ساعة ونصف أقضيها على أعصابي .. أحمد الله أنه صباح الجمعة .. طريق المحور شبه خال.. وإلا ضاعت ثلاث ساعات ونصف في الطريق.. أفتح الباب مهدودا .. تحيني باسمة .. وكأنها شخص آخر غير التي استعجلتني للحضور.. أو كأني أنا غيري!! أحييها وأسألها عن الشرخ.. فتسألني عن إفطاري وهل تناولت شيئا .. تُعدد أصناف الطعام بالثلاجة.. بيض وعسل وعجينة طعمية..  خذ نفسك واسترح قليلا إلى أن أجهز لك إفطارك!!
على مهل أفتح الغرفة .. سرير أبي .. أشتاق أن أفرد جسدي عليه، أتذكر حين رفض السرير  أن أنام مكان أبي!!! وهل ترفض الأسرة النوم عليها .. حدث معي هذا…
ثلاثة أشهر كاملة قضاها أبي - رحمه الله - نائما على هذا الفراش .. كان قد تجاوز السبعين.. كطفل صغير بابتسامة راضية تملأ وجهه كان نائما.. لا يستطيع الحركة، فأتناوب وأخي النوم على الأرض جوار فراشه.. وعند أول حركة.. عند أول تغيير في صوت تنفسه أسرع لأرفع رأسي بمحاذاة جسده.. مستفسرا عن حاجته فيرد بصوت ودود:
- لا شيء نم أنت واسترح .. فأنت لم تغمض منذ أيام.
تستفزني طيبته .. وقلقه عليْ وهو النائم بلا حركة على الفراش .. أبين له أني موجود جواره فقط لألبي حاجاته وإن أيقظني كل دقيقة.. فيعود مرددا :
- حاول أن تنام.
بعد أن قضي الله أمره .. وغادرنا أبي .. بجسده .. بعدها بثلاثة أيام حاولت النوم مكانه .. بشوق أفرد جسدي على تلك المساحة الصغيرة التي احتضنت جسده ثلاثة أشهر .. شيء خفي أبعدني عن تلك المساحة.. إحساس غريب خفي دفعني للطرف الآخر من الفراش.. وكأن روحه لم تزل بنفس المكان .. وكأنني - عن جهل - كنت أحاول النوم فوق جسد أبي.. فوق روحه.. كان أبي مال يزال موجودا ويراني!!
قد يكون هذا سببا من الأسباب الكثيرة التي جعلتني - بعدها بعدة أشهر - أعقد قرآني على حبيبتي.. قبل أن أغويها لتذهب معي للبيت..، شعوري بقداسة المكان .. طهر هذا الفراش الذي حمل أبي مريضا .. وحمله في ليلة زفافه لتبدأ أولى مراحل وجودي .. كنت أخطط كيف أجعلها تخفف قليلا من قلقها المحتشم.. وتزورني.. رفضت رفضا قاطعا ذهابها معي لبيتي.. وحين خططت أن أكون معها ببيت أبي ..بهذا الفراش لنوقع عليه بداية حكايتنا وليختم هو بخاتمه الجليل الحكاية .. كنت آمل أن أكتب أول حروف حكاية ابني عليه .. عقدت قرآني عليها بحضور بعض الأصدقاء القلائل.. ودون علم أمي التي كانت تزور إحدى البنات.
أحاول استغلال دفء البيت .. إحساس الراحة يملأني فأحاول نقله لحبيبتي .. إحاول إطالة مدة بقائنا بالبيت قدر ما أستطيع .. أقترح أن تعد لي فنجان قهوة .. لأتذوقها للمرة الأولى من يدها .. أصطحبها للمطبخ الصغير.. أعرفها عليه وأعرفه عليها .. أدلها على أماكن أوعية البن والسكر والملاعق الصغيرة .. وفنجاني المفضل .. وحين أتم شرب القهوة تسألني بخجل عن مكان نومنا .. أشير إليها .. حجرة أبي وسريره .. وأخجل أن أصحبها إليه.. أستأذنها لأخذ دش صغير.. أفيق به روحي .. أنعش جسدي ونفسي .. وأخرج لأجدها ممددة عليه بانتظاري.
* * *
أقوم محاولا دراسة الشرخ.. أظنه سطحيا.. لا يتجاوز طبقة الأسمنت الرقيقة.. أطمأن نفسي أنه لم يصل لعمق الجدار.. لم يكسر طوبه الأحمر المتلاصق .. أذهب للجهة الأخرى .. الشرفة .. فأجد الشرخ هناك .. وجهه الآخر .. محوطا الجدار من الجانبين .. إذن هو ليس سطحيا.. صوت أمي يناديني بعد أن أعدت الإفطار .. هي من قال لي أن أسترح قليلا!! ولم تتركني لهذه الراحة القصيرة!! لا أنوي مكاشفتها بسر الشرخ.
- يا ابني انت هنا لتنام؟ لتجلس وحيدا؟
لا أستطيع أن أكلمها عما يحكي لي الفراش .. دفء الذكريات وكل عناوين حياتي الكبيرة المخطوطة عليه .. خروجي من رحم هذا الفراش.
-  العمر الطويل لك .. كان أبوك رحمه الله يحب أن أضع كل هذه الأصناف في إفطارة .. ولا يأكل إلا القليل.. ما أشد الشبه بينكما.
أتذكر حنان أبي الذي لم أرثه.. قبل مرضه بشهور كنت نائما هنا .. الساعة السابعة مساءً.. عدت من عملي لأطمأن عليهما .. متعبا يحطم الصداع النصفي جمجمتي.. يكاد يفجرأ رأسي .. أطفأ نور الغرفة وأحاول إغماض عينيي.. يعبر أبي في طريقه لغرفة مكتبه حيث يسهر على أوراقه حتى منتصف الليل .. يتعجب من نومي مبكرا .. فأخبره عن صداعي.. الذي أجبرني على النوم … على الظلام .. يسرع إلى جواري جالسا.. ماسحا رأسي .. يتلو بعض الرقى.. آيات الله المباركة.. يتمم رقيته ويسألني عن اسم دوائي مقترحا أن ينزل لشرائه.. ألعن الصداع في سري .. أقبل كف أبي وأسرع قائلا :
- إن كنت تحتاج شيئا أنزل أنا لأحضره لك.. الحمد لله ذهب الصداع..
يبتسم مكتشفا خداعي .. لم يتركني الصداع بعد ذلك ولكن كيف أسمح لنفسي أن ينزل هو بتعبه وشيخوخته ليحضر الدواء.. فأقسم أني قد شفيت.. يعود ليمسح رأسي ويتركني لأستريح
*   *   *
تسألني أمي بقلق عن الشرخ .. أطمأنها على متانة البيت .. أمازحها مذكرا إياها بيوم الزلزال الكبير الذي لم ينل منه …
- لكننا لم نكن فيه ساعتها..
- لكنه لم يسقط .. لم ينهار.
كنت يومها على حدود مصر .. أقضي فترة تجنيدي.. بعيدا عن القاهرة مئات الكيلومترات.. أخذت حماما سريعا وقت الراحة .. ما بين عملنا النهاري وما ينتظرني من ورديات ليلية .. الثالثة عصرا .. محاولا النوم على السرير الميري المنخفض .. أشعر بهزة خفيفة دامت لثوان .. أٌرجع الأمر إلى الحمام السريع الذي أخذته .. بالتأكيد هو ما جعلني أشعر بهذه الدوخة.. أنام ساعتين لتوقظني يد زميلي الشبراوي..
- اصحى .. الزلزال .. حدث .. ما كنت تتكلم عنه قبل نومك ضرب زلزال كبير البلد .. نشرته الجرائد ويذاع الآن بالتلفزيون .. أتعجب من سذاجته .. وأشك في كل ما يقول .. أي جرائد تلك التي طبعت في ساعتين ووصلتنا هنا في آخر الدنيا؟ يقسم أن ما يقوله حقيقي .. حدث فعلا .. أرتعب من قسمه .. إن كنت أنا هنا في آخر الدنيا شعرت به فماذا يمكن أن يكون حدث بالقاهرة .. 
على عجل أخرج للكافيتريا جوار الميناء.. لا حديث للناس سوى الخسائر التي كابدتها العاصمة .. أكثر المصائب كانت بالأحياء القديمة .. السيدة زينب.. الساحل .. شبرا
يقع قلبي .. في آخر أجازة لي للبيت منذ أسبوع ..كان يقف وحيدا عاريا.. المنزل المجاور اشتراه مالك جديد فهدمه وحفر عميقا بالأرض ليضع أساس عمارة متتعددة الطوابق.. بيتنا يقف عاريا وتحت أقدامه حفرة كبير.. لا يجد ما يستند عليه.. إذن انهار البيت بلا شك .. كان يهتز بشدة عند مرور القطار .. أري بعيني اهتزاز الماء داخل الزجاجات وتخبطها ببعضها حين يمر القطار سريعا أسرع تاركا الكافيتريا راكضا للسنترال .. كل من في المدينة هناك .. ليطمأن على أهله.. على معارفه .. ساعات الانتظار طويلة.. معرفتنا بعامل السنترال سهلت الأمر .. يأتيني جرس الهاتف من بيتنا ولا مجيب.. أكرر المحاولة مرات .. يعاتبني عامل السنترال.. دع غيرك يجرب .. أحاول تذكر أرقام معارفي.. تقفز في رأسي نمرة أصهارنا .. عندهم أيضا لا أجد مجيبا غير الجرس الطويل .. أجن .. هل انمحت شبرا من الوجود؟! صورة الأنقاض بالتلفزيون تقتلني لا أرى من البيت سوى فراش أبي .. أراه وأمي نائمين بوداعة حين سقط بهم البيت.. تسعفني ذاكرتي برقم خالي ببورسعيد.. هو أقرب مني إلى القاهرة .. علَّ عنده أخبار .. يطمأنني صوت ابنته.. حاولت الاتصال ولما لم تجد أحدا بالبيت اتصلت بأختي بمدينة 6 أكتوبر .. هم جميعا بخير .. هم هناك.. أمي وأبي وأصهارنا جميعا بخير .. كجبل ينهد أجلس على كرسي انتظار.. وأتمتم بكل ما أحفظ من أدعية شكرا لله على سلامتهم.
*   *   *
ايه يا ابني.. كُل.. انت سرحت؟
- انتِ هنا وحدك وأنا هناك بعيدا عنك.. لماذا العناد.. تعالي معي.. نؤنس بعضنا..
- ولمن أترك الناس هنا؟ صاروا أهلي..
- يا أمي نحن أهلك أولادك.. وأنا ابنك
- هنا .. الناس طيبون، تعرف؟ الحاجة مالكة البيت - رغم خوفكم وأنتم صغار منها - لن أنسى لها ما حييت وقفتها جواري في كل ظروفي الصعبة.. تعرف؟ ولادتك يا ولد كانت أصعب ولاداتي.. ولادة لم أر مثلها، كانت بعشر من مثيلاتها، تألمت كثيرا.. وحين جاء الموعد .. نزل كل ما يحيط بك.. فرغت بطني تماما إلا منك.. ورفضت أنت النزول.. أسبوع كامل وأنت بالداخل متشبسا.. خائفا من الخروج.. ياااه.. يشهد الله على ما عانيت على هذا السرير الذي لم يبدله الزمن..
كنت تنام جواري .. قطعة من اللحم الأحمر.. تصرخ ولا أستطيع الحركة .. لا أقدر على إسكاتك.. وأبوك في الشغل.. أحيانا تأتي إحدى معارفنا.. إحدى القريبات لتقف على باب الغرفة واضعة يد بوسطها مستندة على الباب بالأخرى وتسأل :
- محتاجة لشيء؟
فأجيب متعبة :
- شكرا….
وأسكت .. مَن تنام نومتي.. وما زالت بوجع الولادة (محتاجة لشيء)؟؟ إلا الحاجة شفاها الله.. دخلت دون أن تسأل.. مدت يدها تحت السرير لتحضر ما تطهوه لنا .. وجدت طبق الغسيل ملآنا .. ملابس متسخة قذرة مبقعة إثر الولادة .. أتمت الغسيل والطبخ بسرعة وهي تلومني لأني لم أستدعها لعمل ذلك.. 
عِشرة يا ابني.. وأنت ستخرج لعملك وتتركني وحيدة في مدينة العفاريت التي تسكنها!!
أسألها مستفسرا عن ساعة مولدي.. وقت خروجي للحياة ..
- كان أبوك يصلي العصر.. وكنت أصرخ أستعجله ليستدعي الداية.. أنت الوحيد من إخوتك من خرج للدنيا على هذا السرير..
أبتسم.. فمن رحم هذا الفراش ولدت .. يربطني به حبل سُْري.. سِْري.. لا يراه سواي ولا يحسه.. لم ينقطع مع مرور السنين بل ازداد متانة مع تراكم ذكرياتي معه .. هو من خُطت على صفحته سطور حياتي.. وليس كما كنت أحسبه مجرد فراش عادي بسيط أخرجني عليه رحم عروس صارخة من الألم .. يتفصد جسمها عرقا.. مبتسمة بزهو بعد خروج ابنها البكري للحياة.
فراشي يعلوه الآن شرخ كبير .. يتسع يوميا .. ولا أعرف كيفية التعامل معه.. صوتٌ داخلي يؤكد علي.. يخبرني بيقين أنه لن يتسبب في أذى لأحبائي في حال غيابي.. إحساس غامر بأنه سيكون رحيما بي حين أنام ثانية على فراشي بجواره .. متذكرا كل أيامي الفائتة.. سيغافلني وأنا سارح مع ذكرياتي.. ولن يشعرني بأي ألم.