الخميس، 27 مايو 2010

إنبات (قصة قصيرة)

- عايز أروح الأر ض
- ا ستني لما عاطف يرجع ياخدك معاه.
- ما تقلقش يا عمي الدنيا هنا ما تتوهش.
خرجت وحدي - بعد أن انتبهت جيدا لشرحهم أين توجد الأر ض - زيارتي الأولى للحقول.. الاتساع والهواء الذي يشعرك بأن لك رئتين تحملهما في صدرك .. تعجيت من أن شكل الخضار الشاسع حولي وهذا الهدوء جعلاني اكتشف أن لي رئتين و أنف وعينين .. اكتشاف إحسا س جديد لوظائف الجسم رغم أنها تتم بداخلي كل لحظة.
علي رأس الغيط كان يجلس عاطف .. ولما رآني ضحك : معقول عرفت تيجي هنا لوحدك؟ دا مشوار؟ ابتسمت ولم أعلق .. يصغرني بسنوات ويتلذذ بمعاملتي كطفل .. كنت في بداية تعليمي الإعدادي - إلا أني في نظره ابن القاهرة المدلل .. من فئة الأطفال وليس العيال .. وكان يؤكد هذا ملابسي بلونها الفاتح وامتلاء جسدي وحذائي الجديد اللامع.
سرحت عيني مع البراح حولي .. صوت رتيب يأتي من خلفي من بعيد .. كانت آله كبيرة على البعد يرتفع منها جزء ليهبط مصدرا طرقة عالية يرافقها صعود بخار من جزء آخر .. شغلت نفسي بحساب الفرق بين ر ؤية البخار و صوت الطرقة.. التفت لعاطف لأسأله ماذا يعرف عن سرعة الصوت والضوء .. ابتدرني قائلا:
- هاروح أجيب حاجة بسرعة وخليك هنا واهي الأر ض بتتروي لوحدها..
كدت أسأله كيف تروى؟ وفي نفس اللحظة قررت أن أحاول التعلم بعيني ودون سؤال ..
- اوعى بس يطلع لك ديب وللا حاجة .. بس لو شفت تعلب ماتخافش .. زيه زي الكلب ما بيعملش حاجة..
كانت النصيحة الأخيرة حقيقية .. قلت لنفسي : هما هنا ما بيخافوش من الكلاب كمان.
عريشة صغيرة بجوار شجرة .. وكومة تراب بجوارها .. جلست انتظر عاطف .. خلفي مربط جاموستين وبقرة .. ممرات مائية صغيرة بها فتحات ينساب منها الماء ليروى الأر ض.. أكيد هي دي اللي بيسدوها لما الأر ض تتروي.. مش كيميا يعني! جربت أن أكلم نفسي بصوت عالي .. مسكت قطعة من الطين .. إحساسي بطراوتها لم يخف عن يدي ما بها من طاقة .. ووجدت نفسي أفلسف الأمور .. و أفكر كيف أن قطعة الطين هذه تأخذ البذرة الصغيرة وتفجر بها كل هذه الحياة .. لدونة الطين وطاقته الكامنة فجرا بداخلي مشاعر متناقضة من حب الطين وطهارته رغم تحذيرات الأهل من اللعب به .. أخذ الطين في يدي يتحول لشكل رأس البقرة بسمرته اللذيذة .. قلبت برجلي الأر ض باحثا عن عود صغير ارسم به العينين والفم المتسع.
- ا سبوع كمان في المكان دا وابقي شاعر ور سام ومش بعيد ملحن.
تذكرت قصيدة صلاح جاهين (عيون البقر) «واللي يعشق واحدة فيها م البقر يبقى لا مؤاخذة تور » .. انتهيت من إلقاء القصيدة و أنا واقف أمام البقرة أنظر لعينها .. و أكلم الجامو سة بصوت عال:
- ما تزعلي ش بس هي دي اللي حافظها .. (قصاقيص ورق) ما فيهوش حاجة عن الجامو س.
- انت بتكلم نفسك؟
جاءني الصوت من خلفي مباغت .. كيف لم أ شعر باقترابها رغم اكتشافي لحوا سي وهذا الهدوء اللذيذ ...
كانت تحمل منديلا مطويا.. بداخله أرغفة وبعض الطعام لأخيها ..
- أمال الواد عاطف راح فين؟
- مش عارف .. وسكت.
- طول عمره فقري .. أمي دابحة النهاردة وباعتاله نايبه.. بس انت بقى هاترجع معايا تاكل ف البيت..
التفتت بعينيها تفحص المكان .. كان الطريق إلى مجلسنا طويلا .. وباتساع الأفق لم ألمح إنسانا غيرنا.. جلست جواري .. تاركة المنديل باهمال على كومة تراب .. قلت أنا مالي هو أنا اللي هاكل؟ كان الكلام في سري .. وطال بعده الصمت.
حاولت أن أجد أي كلام يقال ليزيح هذا الفراغ اللزج ولم أجد .. كانت كل معلوماتي عن الريف تنحصر في عم حسن الذي ا ستطاع في أحد درو س الكتاب الابتدائي أن ينزع الكرنبة من الأر ض..
- ما قلتليش .. انت كنت بتكلم البقرة بجد؟
ابتسمت ولم أعلق .. هاقول لها إني بقول شعر للبقرة عن عيونها الو ساع؟ هابقى عبيط رسمي.. التقطت رأ س الجامو سة من الأر ض .. قلبتها بيدها با ستغراب وقالت مازحة:
- بص .. حد كان بيحاول يعمل بقرة بس طلعت معاه كده؟
- كده ازاي يعني؟ مالها؟
- شكل لا هو بقرة ولا جامو سة ولا حتى حمار.
غاظني الكلام.. وغاظني أكثر فشل مشروعي النحتي الأول .. ووجدتني اتبرأ منه .. و أرد لها مزحتها ببعض التعالي:
- تلاقي اللي عاملها ما بيشوفش قدامه غير الحيوانات.
لم تلحظ ما رميت إليه .. فاغتظت أكثر .. كنت أحاول بسذاجة طفولية أن أثبت لها مدي ثقافتي أنا القادم من القاهرة ..
- انت تعرف إيه الفرق بين البقرة والثور؟
قلت لنفسي هي دي الثقافة اللي عندك؟؟ .. وحاولت الرد.. فتحت فمي ولم أنطق .. انتبهت للتلميح .. وكيف كانت تدير الحديث ببراعة إلي الجهة التي تريدها .. لمعت عيناها بنظرة متحدية .. ونظرت في عيني مبا شرة .. تلاشت من رأسي الكلمات والقاهرة والجاموستين والبقرة خلفنا .. سحبتني بيد .. وبالأخرى وكأنها ترفعه عن الأر ض لمت جانب جلبابها ليضيق على جسدها مظهرا انحناءاته.. .. ارتعبت أن تلحظ الرعشة التي انتابت نفسي .. أجاهد ألا يرتعش جسدي .. دارت بي حول الثلاثة حيوانات . و أ شارت إليها دون ان تنطق ..
قالت متحدية وناظرة نحوي:
- بس ما فيش هنا تور كنت وريتهولك.
ساقتني بيديها لنجلس والتصقت بي .. وراحت تبحث عن وجه الشبه بيني وبين الحيوان المذكور... المشاعر الطفلة بداخلي تتلاشي .. وتنفجر بدايات الرجولة.. ملمس الطين والطاقة المتفجرة بداخله .. رأيتني بذرة تتفجر منها الخضرة وتنبت الفروع بقوة مختلطة بالطين .. يذوب بفمي طعم ثمار لم أذقها من قبل .. من أي شجرة نبتت لم أعرف ولم يكن يعنيني أن أعرف.. أتوه ولا أعرف أي الطرق أسلك.. فتمسك يدي تدلها على أماكن طرحها .. ثمار تنضج وتكبر كلما أكلت .. أعضاء جسدي تكتشف وظائفها الكامنة بها .. الشفاه والأذرع .. كل عضو يكتشف وظائفه الجديدة بعشق جديد للحياة .. تتشابك الفروع وتوجهها هي حيث تشاء ..تركتني أتلاشي حتي نهايتي ..
استلقت على ظهرها ببسمة لذيذه أنارت وجهها .. جلست ألملم جسدي وروحي الذائبة .. وعاد للهواء صوته الرقيق و ضربت الأر ض بقرة برجلها .... لم تنظر لي وقالت:
- مالك .. انت زعلان؟
يدي تعبث بالطين .. أمسك حجارة صغيرة و ألقيها بعيدا .. ولا أفكر في شيء .. قطعة صغيرة من الطين بيدي .. نظرت فيها .. لم تكن من قبل على شكل أي من الحيوانات .. لا بقرة ولا جاموسة ولا حتي حمار.
- تعرفي تكمليها انتي؟؟
ابتسمت بخبث
- هاخليها تور.
19 - 4 - 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق