أخيرا بدأ الصيف في الرحيل .. أفتح زجاجي فلا داعي للتكييف .. نسمات هادئة تداعب أنفي .. وكالعادة في إشارة روكسي أطول وأغلس إشارة في القاهرة .. أبدأ في ممارستي هوايتي القديمة .. الطريق المقابل يخلو تماما من السيارات .. مما يشعرني أني جالس على الكورنيش.. متعتي الوحيدة وهوايتي أيضا ملاحظة المشاة .. وإن اختلفت النوعية الآن في الإشارة عنها في ماسبيرو.
أبدأ لعبة تخيلاتي .. طفلة صغيرة بضفيرتين أراها تهزهما بشكل مرح .. فتدور الضفائر فوق رأسها كمراوح الهليكوبتر .. وما تلبث أن ترتفع أقدامها عن الأرض لتطير!
انتبه لبروز صدر فتاة ترفع رأسها وتمشي منتصبة .. ولسان حالها يقول .. أين العيون لترى .. أبدأ لعبتي فأبدل مكان الصدر لأضعه في الخلف .. ابتسم لرؤيتها مسطحة تماما من الأمام و أربع نتوءات تبرز في ظهرها وتنمو وتزداد ضخامة .. وما يلبث الثقل أن يجعلها تنكفئ على ظهرها..
أغرب ما رأيته – حقيقة بدون تخيل – رجل يمشي في زحام شارع السودان .. متخذا مسارا عجيبا لخطواته .. كأنه يرى سلك سماعة تليفون كبيرة ويسير عليه .. خطواته على شكل دوائر يلف فيها بكامل جسده .. يدور .. فيقطع في أكثر من ضعفي الوقت ما نقطعه في ثوان.. تبسمت أن رحمه الله بهذا المرض النفسي من تخيلاتي وأمراضي النفسية..
بائعة خبز تفترش الطريق .. ولا يوجد أمامها مشتر واحد.. ألقي نظرة على النور الأحمر للإشارة .. وأدندن بيتا كتبته مقدمة لقصيدة طويلة منذ خمسة عشر عاما أو يزيد أيام الدراسة الثانوية.. لكني لم أكتب إلا:
(من يأخذ جسدي المتعب عني؟
يعطيه لبائعة الخبز..
كي تلقي نصفا في النار
وتنام مع النصف الآخر.. )
أرفع صوتي ببيت الشعر القديم وابتسم، هل هي بائعة خبز أم خبازة .. فاحتار في هوية من كنت أريد النوم معها في تلك الأيام!
تقفز في رأسي كل أبياتي المبتورة.. قصائدي التي لم تتم:
(إلا هي.. إلا هبة..
ذات العيون اللاهية..
اللاهبة)
أكنت حينها أتنبأ أني بعد عشرين عاما ستقتحم هبة حياتي؟ تجتاحني ببراءتها اللاهية وحضورها الذي يشعل نيران العشق بي؟
عربة معدنية شبيهة بالكارو تأخذني من تفكيري بهبة .. العربة تحمل ما لا يقل عن 12 شيكارة أسمنت، حوالي 600 كيلوجرام.. مجهزة بيد واحدة في المقدمة ليجرها رجل.. يمشي وذراعاه للخلف ساحبا كل هذا الثقل.. تساءلت عن مسمى هذا العمل .. ماذا نطلق على الرجل؟ شيال؟ ليست هي الكلمة المناسبة .. ياااااااااه ما زال في بلادما من يمتهنون مهنا هي في الأصل لحيوانات الجر .. أستغفر الله ربي.. جسد الرجل نحيل لكنه يعافر ليجر الحمل الثقيل .. رأسه للأمام ناظرا لأعلى .. خلف العربة يمشي شاب أنيق أظنه صاحب البضاعة .. المشتري .. يسرع خطوتين ليساعد الرجل فيدفع العربة من الخلف .. يخف الحمل قليلا عن الرجل ويبدو عليه الامتنان.. ترتفع الكلاكسات خلفي فأرى بداية تحرك السيارات أمامي.. أتحرك ببطء وقبل أن أصل إلي الإشارة.. يزجرني الضوء الأحمر ثانية لأقف.
لا أجد برأسي ألعابا نفسية أخرى .. ازدحمت الضفة الأخري .. أدير الكاسيت فيرتفع الصوت (أمانة يا ريس الغليون ترجعهم يالالالي .. آخد حبيبي في إيدي والباقي غرقهم يا لالالي) أرى الحبية أعلى الجبل تراقب تصاعد الدخان الأسود من مدخنة الجسد المعدني الضحم للسفينة التي سرقت حبيبها لتلقيه في غياهب العمل الشاق .. فتصرخ على ريس المركب أن يعود به .. لكن لماذا يغرق الآخرين؟ هل من شدة لوعتها للفراق لا يهمها من الخلق جميعا إلا هو.. أعود لألاحظ تناقضي شخصيا .. ألست أنا القائل (إلا هي....) !
يدخل الرجل والعربة مجال نظري ثانية .. ينفصل عنه الشاب نافضا يده – ماديا ومعنويا – ويعبر الطريق نحوي حيث محطة الأوتوبيس .. إذن لم يكن صاحب البضاعة .. إذن كانت مجرد مساعدة لهذا المجاهد ساحب العربة .. الله عليك .. شاب بملابس مهندمة نظيفة يساعد من لا يعرفه ولم يكلمه .. لا يخشى أن يراه زميل عمل وهو يدفع عربة .. لا يخشى على هندامه .. هزت هذه اللفتة الإنسانية إحساسي .. تمتلأ الصحف بما لذ من إشعال الفتن .. معركة العوا وبيشوي .. فتنة طائفية في المرج.. يقتل صديقه من أجل 30 جنيها .. أين هذا على أرض الواقع .. هل هي المتناقضات؟ لا أعتقد أن الشاب سأل الرجل عن ديانته أو انتمائه السياسي أو رأيه فيما يجري .. هل هو مع أو ضد .. لم يخطر بباله ولن يخطر أي من هذه التساؤلات.. مازالنا بلطف من الله ورحمة بنا نحمل بعض صفاتنا الإنسانية.. ما زلنا رغم ما يمر بنا من زرع مبادئ الأنامالية والأنانية .. يا رحمن يا كريم .. احمنا ولا تحرمنا من القليل الذي ما زال يجري في دمائنا من رحمة وشفقة وتعاطف..
يلمع اللون الأخضر مبتسما .. أرفع صوت الكاسيت
من بين شقوق الشيش و شقشقت لك
مع شهقة العصافير و زقزقـــــــت لك
نهار جديد انا . . قوم نشوف نعــمليه
انا قلت يا ح تقتلني .. يا ح اقــــــــتلك
عجبي !!!
وأنطلق لأبدأ يوم عمل جديد أدعو الله أن لا يهزمني لأعود لبيتي منتصرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق