الأحد، 3 أكتوبر 2010

لب بطيخ






شمس الشتاء الدافئة تتسحب لتقف في منتصف الحجرة .. أزيح الكليم لأعري البلاط ة .. أضع ما معي من بلي على شق صفير بين بلاطتين .. يستحثني أخي الصغير للانتهاء ليقذف كرته الزجاجية الصغيرة .. رمية واحدة  ويتناثر البلي معلنا هزيمتي.
يعلو تهليل الصغير.. يرتفع صرلخه فرحا بالفوز..  فاليوم جمعة لم أذهب لمدرستي  وأبي خرج مبكرا للعمل.. أجازة أبي يوم الأحد يوم صدور العدد الجديد من المجلة.. وحدنا بالبيت الأخت الكبرى نائمة وأمي خرجت لمشوار تسوقها اليومي.. فلماذا لا يرتفع تهليله؟!
طرقات عالية على باب الشقة .. أقفز مسابقا أخي .. أفتح الباب لأجد أخي الصغير بين قدمي يردد كل ما أقوله للرجلين الواقفين بالباب .. أمامهما كرتونة كبيرة مرسوم على أحد جوانبها بوتاجاز كبير..
- بيت الأستاذ سعيد محرم؟
فأرد ومعي أخي كأنه صدى
- أيوة .. أنا ابنه.
- هو موجود؟
- لأ .. في الشغل.
- طيب انده لي حد كبير.
- أختي الكبيرة مش كبيرة.
يغمزني أخي بكوعه :
- لأ كبيرة ..
فيبتسم الرجل :
- انده لها.
تتسلم أختي الكبرى البوتاجاز وتكتب اسمها على ورقة صغيرة في يد الرجل.. وتطلب منه أن يضعه لنا في المطبخ.. نتقافز أنا وأخي فرحين بالجهاز الجديد .. العضو الجديد بالأسرة .. يشعل الرجل إحدى العيون ليطمأننا على سلامة التركيب.. وينبهنا محذرا ألا نلمسه حتي تحضر أمي أو أبي.
يسأل أخي الرجل :
- هو احنا كده هانرمي الوابور؟
يقهقه الرجل :
- براحتكم بقى.
تختلف فرحتي عن الجميع  .. فأنا مسئول المشاوير في البيت وإحدى مهامي إصلاح وابور الجاز حيث أقضي أغلب نهاراتي عند السمكري منتظرا دوري بين العديد من الأطفال والنساء الجالسات على الدكة الخشبية السوداء المشبعة برائحة الجاز.. وحين أجد مكانا لأجلس يأتي وابور آخر بيد سيدة أخرى فأضطر للوقوف لتجلس مكاني..
الابتسامة لا تفارق وجه أختي .. التي أسرعت بتوزيع المهام علينا.. حملنا الترابيزة لنضعها بالصالة.. وكانت المعضلة حينها كيف نفاجأ أمي حين عودتها؟ اقترحت أن نغطيه بمفرش الترابيزة القديمة.. فرحنا بالفكرة وتم التنفيذ بسرعة  وسهولة  ودقة غريبة علينا.
ناديت أخي لنعود للبلي .. عادت أمي فخطفت شنطة الخضار من يدها ووضعتها على الترابيزة في الصالة .. لنفاجأ بها متعجبة:
- إيه اللي جاب البتاعة دي هنا؟! هما جابوا البوتاجاز؟
لم نتوقع أن تكون المفاجأة لنا .. نظرت لأختي وانفجرنا ضاحكين.. باظت الحكاية.. لم نعمل حساب الترابيزة ولا لكون أمي بالتأكيد تعرف بقدوم البوتاجاز اليوم.
نشطنا جميعا نساعدها في تحضير الغذاء .. المرة الأولى لوضع حلتي الأرز والخضار معا لينضجا في وقت واحد.. وتبقى عين ثالثة صغيرة لعمل القهوة لأبي في الصباح .. لتختفي أيضا من حياتي السبرتاية التي طلعت عيني في تصليح رجولها الصغيرة الضعيفة .
اقتربت الساعة الثالثة .. أقفز للبلكونة منتظرا قدوم أبي اليومي  .. يخرج في الثانية والنصف من المجلة في وسط البلد ليكون بالبيت في الساعة الثالثة دون لحظة تأخير..
أتابع طقوسه التي نادرا ما تتغير.. حمامه اليومي…  يدخل بملابس الخروج ليهل علينا منتعشا بهدوم البيت .. نتقافز حول أمي جيئة وذهابا منها إلى السفرة حاملين أطباق الغدا .. نرصها باحتراس على السفرة .. أول وجباتنا المطهية على البوتاجاز.. وقبل  أن ننتهي يصرخ أخي :
- عاوز بطيخ. أحاول إلهاءه : 
- بطيخ إيه يا ابني؟ إحنا في الشتا!
تنظر لي أمي بلوم :
- انزل عشان خاطر أخوك .. هاتلاقي عند عمك عبد الفضيل.
فينزل مندوب المشتريات - أنا - لأشتريها .. أرفعها على صدري لتتناولها أمي وأجري لإحضار الفوطة الخضراء .. تغمرها أمي في الماء وتضعها على البطيخة جوار شباك المطبخ ليبردها تيار الهواء.
لكل فترة في اليوم مذاقها المختلف .. ساعاتها الممتدة الطويلة ولكل وقت منها طقوسه المختلفة المميزة .. قضيت فترة المغربية نائما .. هزات يد أخي توقظني ..
- اصحى بقى .. مش هاتلعب معايا؟
- لأ مش لاعب..
أرد متكاسلا فيقول بخبث:
- محمود هايلعب معانا هو وبثينة بنت خاله.
أقفز نافضا اللحاف والكسل : هما فين؟
- قدام البيت.
تمضي ساعة كاملة لم أشعر بها وأنا جالس بجوار بثينة على السلم.. وأخي ومحمود يقفزون حولنا ببليهم ودوشتهم .. تسمع أمي صراخ أخي وتهليله فيعلو صوتها لندخل.
أبي مستيقظ يفرد جسده على السرير .. يعيد قراءة الجرائد .. وثلاثتنا ملتفون حول أمي على الأرض.. أحاول سند ظهري على الحائط فأجد الكليم صغيرا وجسدي كله على البلاط .. فتحذرني أمي من برودة البلاط .. لأعود مبتعدا عن البلاط..
شيء هام لا أدريه أفتقده في هذه اللمة ولا أدري ما هو .. الجو بارد .. هجم الشتاء فجأة فجعل البلاط يشع ثلجا .. أتحمل وجع ظهري ولا أتحمل برودة البلاط.
يصرخ الصغير :
هو لب البطيخ فين؟
ويجري للمطبخ باحثا .. يأتي به مغسولا مفروشا على صينية ليجف.. يطلب من أمي تحميصه .. تنظر أمي تجاهي بابتسامة :
- قوم هاته.
- هو إيه؟
- الوابور.
أقفز للحمام .. منزويا في الركن أجده .. أسحبه بلطف .. أضع قليلا من الجاز فوقه .. أشعل عود الكبريت .. ليسخن وأحمله ليتوسط جلستنا .. أسرع لأحضر لوح الصاج الصغير وأضعه فوقه .. ترش أمي بعض الملح على اللب النيء وتفرده على الصاج .. ينتشر وشيش الوابور حاملا الدفء للحجرة .. طرقعة حبات اللب فوق النار .. رائحة التحميص الشهية تؤكد شعورنا بالدفء.. تقلب أمي اللب وتنظر لأبي في مودة :
- تاخد شوية لب؟
يعتدل متكئا على كوعه :
- هاتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق