ايه يا مصطفى.. تسربت سنينك وتساقطت مع اللون الأسود للحيتك .. تاركة شعيراتك الكثيفة بيضاء من غير سوء .. صرت تحمل داخل كهولة جسدك كهولة الروح.. ومازلت تسعى لإقناع نفسك أنك تبدأ الطريق .. يجذبك شعاع الإطراء باسكتشاتك البسيطة .. تحلق منتشيا فرحا وزهوا بتعليق يجاملك به معجب بإحدى لوحاتك .. ايه يا ابن مولانا ومصورنا الأكبر .. أين أنت طيلة عشرين عاما خاصمت فيها حياتك الفرش والألوان .. ارتكنت فيها للجمود واجتذبك سحر السبات الدائم في دوامة اللاحركة.. أو الحركة التى لا تتجاوز القصور الذاتي.. دوامة اعتصرت روحك .. حتى وهي تعتصرك وتمتص أيامك لم تكن فيها فاعلا .. حياة كاملة تركتها وركنت للون رمادي حيادي كئيب .. ماذا يفيدك البدء الأن.. .. وهل تصلح الألوان ما أفسده الدهر؟
جالسا على الأرض كنت .. أرى مصطفى أمامي في المرآة الكبيرة المغلفة لدولاب حجرة النوم.. ولم أكن معتادا على محادثته بصوت مرتفع .. غاية ما أفعله أن أنظر إليه بابتسامة استخفاف حقيقي .. مرددا بلا صوت: من أنت؟ وبالطبع كان يرد لي الابتسامة بأسخف منها ..
لا أعرف بالتحديد ما الذي جعلنى أسمعه اليوم صوتي بنبرة حادة وبحروف واضحة وبلغة عربية فصيحة أضغط عليها جيدا لتظهر …. تندفع كلماتي وتساؤلاتي التي أعلم يقينا أنها ستجعله في جلسته هذه أياما ولن يفكر حتى في النوم .. أعود مستدركا ومصححا معلوماتي عنه .. بل سينام ملء عينيه .. متدثرا بالسكينة نافضا عنه غبار تساؤلاتي المقلقة.. هكذا كان وهكذا سيبقى .. سيستمر
اهتزت ابتسامة شاحبة على وجهه وباغتني :
- تعرف ؟ منذ أسبوعين صادفت زميلك القديم الناقد التشكيلي سعيد كمال .. في لحظة غير محسوبة التقى وجودانا ثانية مصادفة لم أحسب لها .. وجدتني عفويا أصافحه وأذكره بأيامنا معا ..كان كمن لا يعرفني .. اعتصر جبينه بحركة تمثيلية مسرحية حاول أن تبدو طبيعة…..
صمت مصطفي قليلا فأسرعت بمجاراته قائلا :
- حاول أن يتذكر؟! كل تلك الأيام.. تلك النهارات التي قضيناها سيرا على الأقدام! قضاءنا وقت ما بين المغرب والعشاء على زهرة البستان… طوافنا بالليالي على ندوات متفرقة بالمحافظات القريبة من القاهرة.. حتى أحياء القاهرة أرهقناها وأرهقت أزقتها أقدامنا .. مراكز الشباب صالات الفن التشكيلي.. كان يحاول أن يتذكر كل هذا؟!
قهقه وأدار وجهه مستلقيا على ظهره وعاقدا كفيه وسادة تحت رأسه:
- خبط صاحبك رأسه بكفه كمن تذكر تلك الأيام ولم يوضح أنه تذكرني شخصيا.. علق بكلمات قليلة موضحا أن ما قمت به أنا من زواج وفتح بيت جديد والسعي وراء لقمة العيش كل هذا صار بطولة في أيامنا هذه.. كان كمن يؤنبني ويذكرني بأني ابتعدت طائعا زاهدا فيما منحني الله من موهبة.
صحت بمصطفى أحاول إفاقته :
- لكن هذا ما كان .. اخترت طريقك بعيدا عن لوحاتك.
ازدادت المرارة بكلماته واحتد علي:
- اختيار؟ عن أي اختيار تتكلم … وأي بطولة فيما فعلت .. هل صار الزواج بطولة؟ .. كان كلامه مجرد تلغراف مواساة .. تعزية إن شئت الدقة… هل السعي وسط القطيع صار مجدا.. إن ساروا يمينا كنت معهم.. شمالا سبقتهم.. أي معنى لتحملك ما تثيره حوافر القطيع من غبار لزج يلتصق بأيامك فتمشي.. محبطا تمشي… نائما مستيقظا تمشي..
- إذن لم يكن اختيارك؟.
- لم أزهد يوما عشقي لامتزاج الألوان لتلد ذلك الطفل الإلهي المدهش .. الإبداع .. لم تزهد أصابعي احتضان الفرشاة .. كنت أحاول حين يغلبني شبقي وشوقي أن أراودها عن نفسها فتأبي.. كانت كفتاة مغترة بجمالها تهب نفسها لمن تريده لا من يحترق شوقا لها.. أنت أعلم الناس بما كنت أحمله لها.
- أذكر قضاءك الساعات في مرسم والدك..
- كنت أحسد أبي .. يفتح باب المرسم منهكا .. يدعوني لأرى لوحة جديدة لم تجف ألوانها .. أقف أمامها _ أنا ناقده الأول _ فيراقب حركة عيني على اللوحة محاولا أن يستشف انطباعي الأول.. كان رحمه الله كطفل أنهي فروضه المدرسية وينتظر قطعة سكر .. عشت سنينا وأنا قطعة سكره.. وقبل أن أفتح فمي مبديا رأيي يقاطعني أين لوحاتك؟ لماذا توقفت عن اقتباس قطعة من روحك وبثها في عمل جديد … يشعر بالمرارة تأكل روحي فيعود طالبا رأيي .. استمرأت اللعبة معه .. وفضلا عن ذلك أشاركه قبل ميعاد معرضه وضع برواز يتناسب واللوحة.. سنفرة .. دهان .. أعيد ترتيب المرسم .. أشد قطعة جديدة من التوال وأرص أنابيب الألوان والفرش.. أتمم على الألوان لأشترى ما فرغ منها .. كل تلك السنوات لم تدعوني الألوان يوما لدفء حضنها.
- أحاول أن أفهمك.
- أنا لا أفهمني … لا أستطيع وصف ما فعله بي لقائي بصديقك القديم .. رأيت الألوان تقفز لتسكن بين أصابعي .. ترتمى على سطح التوال الأبيض لتسطع أقمارا وشموسا .. ينير وهجها روحي ويبعث الدفء في نفسي .. أحاسيس كنت أظنها ماتت ودفنت بغير رجعة.
- جميل .. لم تخل إذن مصادفتك له من فائدة..
- جاهدا كنت أحاول اقتناص فرصة انبعاث الوهج ثانية .. غريق يلتمس لوحا خشبيا.. أرسلت لصاحبك إحدى اللوحات .. بل اثنتين.. وانتظرت طويلا رده الذي لم أتلقاه.
- ولم تحاول مقابلته ؟ قد يكون رغب في أن تحاول مرارا أن تنال شرف لقاءه.
- أوضحت له في رسالة أني لا أؤمل أن يكتب دراسة نقدية .. كان غاية سعيي تعليقا صغيرا ممن يعد الآن متخصصا ..
- ولماذا لم تفترض أنه احتراما لعشرة قديمة لم يرد .. قد يكون عدم الرد أحيانا ردا معبرا.
_ حتى هذا أوضحته له.. أن لا يقلق .. فإن لم يلق عملي قبولا لديه .. عدت ثانية للمشي مع رفاقي أفراد قطيعي العملي .. نرسم غلاف كتاب ذي توزيع محدود … نصمم ملصقا دعائيا .. ونسير .. نمشي .. محبطين نمشي .. منتشين … نائمين …..
صمت قليلا .. زفر مخرجا كما مدهشا من الهواء .. واستمر الصمت.
إيه يا مصطفى .. كانت تكفيني وتكفيك تلك الابتسامة المستخفة .. سؤالي من أنت … ستهجر ألوانك ثانية متعللا بأنها من تركك .. إيه يا مصطفي.. أنت نفسك لم تستطع تحمل الوهج الساطع منك .. يا ابن معلمنا الكبير .. أناشدك الله ألا تيــــ……
قاطعتني ابتسامته المستسلمة .. المستخفة … بحثت عن سجائري مد يده وأشعل معي واحدة .. حمل جسده بصعوبة وارتمي نائما ينفث دخانه في الهواء.
جالسا على الأرض كنت .. أرى مصطفى أمامي في المرآة الكبيرة المغلفة لدولاب حجرة النوم.. ولم أكن معتادا على محادثته بصوت مرتفع .. غاية ما أفعله أن أنظر إليه بابتسامة استخفاف حقيقي .. مرددا بلا صوت: من أنت؟ وبالطبع كان يرد لي الابتسامة بأسخف منها ..
لا أعرف بالتحديد ما الذي جعلنى أسمعه اليوم صوتي بنبرة حادة وبحروف واضحة وبلغة عربية فصيحة أضغط عليها جيدا لتظهر …. تندفع كلماتي وتساؤلاتي التي أعلم يقينا أنها ستجعله في جلسته هذه أياما ولن يفكر حتى في النوم .. أعود مستدركا ومصححا معلوماتي عنه .. بل سينام ملء عينيه .. متدثرا بالسكينة نافضا عنه غبار تساؤلاتي المقلقة.. هكذا كان وهكذا سيبقى .. سيستمر
اهتزت ابتسامة شاحبة على وجهه وباغتني :
- تعرف ؟ منذ أسبوعين صادفت زميلك القديم الناقد التشكيلي سعيد كمال .. في لحظة غير محسوبة التقى وجودانا ثانية مصادفة لم أحسب لها .. وجدتني عفويا أصافحه وأذكره بأيامنا معا ..كان كمن لا يعرفني .. اعتصر جبينه بحركة تمثيلية مسرحية حاول أن تبدو طبيعة…..
صمت مصطفي قليلا فأسرعت بمجاراته قائلا :
- حاول أن يتذكر؟! كل تلك الأيام.. تلك النهارات التي قضيناها سيرا على الأقدام! قضاءنا وقت ما بين المغرب والعشاء على زهرة البستان… طوافنا بالليالي على ندوات متفرقة بالمحافظات القريبة من القاهرة.. حتى أحياء القاهرة أرهقناها وأرهقت أزقتها أقدامنا .. مراكز الشباب صالات الفن التشكيلي.. كان يحاول أن يتذكر كل هذا؟!
قهقه وأدار وجهه مستلقيا على ظهره وعاقدا كفيه وسادة تحت رأسه:
- خبط صاحبك رأسه بكفه كمن تذكر تلك الأيام ولم يوضح أنه تذكرني شخصيا.. علق بكلمات قليلة موضحا أن ما قمت به أنا من زواج وفتح بيت جديد والسعي وراء لقمة العيش كل هذا صار بطولة في أيامنا هذه.. كان كمن يؤنبني ويذكرني بأني ابتعدت طائعا زاهدا فيما منحني الله من موهبة.
صحت بمصطفى أحاول إفاقته :
- لكن هذا ما كان .. اخترت طريقك بعيدا عن لوحاتك.
ازدادت المرارة بكلماته واحتد علي:
- اختيار؟ عن أي اختيار تتكلم … وأي بطولة فيما فعلت .. هل صار الزواج بطولة؟ .. كان كلامه مجرد تلغراف مواساة .. تعزية إن شئت الدقة… هل السعي وسط القطيع صار مجدا.. إن ساروا يمينا كنت معهم.. شمالا سبقتهم.. أي معنى لتحملك ما تثيره حوافر القطيع من غبار لزج يلتصق بأيامك فتمشي.. محبطا تمشي… نائما مستيقظا تمشي..
- إذن لم يكن اختيارك؟.
- لم أزهد يوما عشقي لامتزاج الألوان لتلد ذلك الطفل الإلهي المدهش .. الإبداع .. لم تزهد أصابعي احتضان الفرشاة .. كنت أحاول حين يغلبني شبقي وشوقي أن أراودها عن نفسها فتأبي.. كانت كفتاة مغترة بجمالها تهب نفسها لمن تريده لا من يحترق شوقا لها.. أنت أعلم الناس بما كنت أحمله لها.
- أذكر قضاءك الساعات في مرسم والدك..
- كنت أحسد أبي .. يفتح باب المرسم منهكا .. يدعوني لأرى لوحة جديدة لم تجف ألوانها .. أقف أمامها _ أنا ناقده الأول _ فيراقب حركة عيني على اللوحة محاولا أن يستشف انطباعي الأول.. كان رحمه الله كطفل أنهي فروضه المدرسية وينتظر قطعة سكر .. عشت سنينا وأنا قطعة سكره.. وقبل أن أفتح فمي مبديا رأيي يقاطعني أين لوحاتك؟ لماذا توقفت عن اقتباس قطعة من روحك وبثها في عمل جديد … يشعر بالمرارة تأكل روحي فيعود طالبا رأيي .. استمرأت اللعبة معه .. وفضلا عن ذلك أشاركه قبل ميعاد معرضه وضع برواز يتناسب واللوحة.. سنفرة .. دهان .. أعيد ترتيب المرسم .. أشد قطعة جديدة من التوال وأرص أنابيب الألوان والفرش.. أتمم على الألوان لأشترى ما فرغ منها .. كل تلك السنوات لم تدعوني الألوان يوما لدفء حضنها.
- أحاول أن أفهمك.
- أنا لا أفهمني … لا أستطيع وصف ما فعله بي لقائي بصديقك القديم .. رأيت الألوان تقفز لتسكن بين أصابعي .. ترتمى على سطح التوال الأبيض لتسطع أقمارا وشموسا .. ينير وهجها روحي ويبعث الدفء في نفسي .. أحاسيس كنت أظنها ماتت ودفنت بغير رجعة.
- جميل .. لم تخل إذن مصادفتك له من فائدة..
- جاهدا كنت أحاول اقتناص فرصة انبعاث الوهج ثانية .. غريق يلتمس لوحا خشبيا.. أرسلت لصاحبك إحدى اللوحات .. بل اثنتين.. وانتظرت طويلا رده الذي لم أتلقاه.
- ولم تحاول مقابلته ؟ قد يكون رغب في أن تحاول مرارا أن تنال شرف لقاءه.
- أوضحت له في رسالة أني لا أؤمل أن يكتب دراسة نقدية .. كان غاية سعيي تعليقا صغيرا ممن يعد الآن متخصصا ..
- ولماذا لم تفترض أنه احتراما لعشرة قديمة لم يرد .. قد يكون عدم الرد أحيانا ردا معبرا.
_ حتى هذا أوضحته له.. أن لا يقلق .. فإن لم يلق عملي قبولا لديه .. عدت ثانية للمشي مع رفاقي أفراد قطيعي العملي .. نرسم غلاف كتاب ذي توزيع محدود … نصمم ملصقا دعائيا .. ونسير .. نمشي .. محبطين نمشي .. منتشين … نائمين …..
صمت قليلا .. زفر مخرجا كما مدهشا من الهواء .. واستمر الصمت.
إيه يا مصطفى .. كانت تكفيني وتكفيك تلك الابتسامة المستخفة .. سؤالي من أنت … ستهجر ألوانك ثانية متعللا بأنها من تركك .. إيه يا مصطفي.. أنت نفسك لم تستطع تحمل الوهج الساطع منك .. يا ابن معلمنا الكبير .. أناشدك الله ألا تيــــ……
قاطعتني ابتسامته المستسلمة .. المستخفة … بحثت عن سجائري مد يده وأشعل معي واحدة .. حمل جسده بصعوبة وارتمي نائما ينفث دخانه في الهواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق