الأربعاء، 13 أكتوبر 2010
شخبطة طريق (١)
أخيرا بدأ الصيف في الرحيل .. أفتح زجاجي فلا داعي للتكييف .. نسمات هادئة تداعب أنفي .. وكالعادة في إشارة روكسي أطول وأغلس إشارة في القاهرة .. أبدأ في ممارستي هوايتي القديمة .. الطريق المقابل يخلو تماما من السيارات .. مما يشعرني أني جالس على الكورنيش.. متعتي الوحيدة وهوايتي أيضا ملاحظة المشاة .. وإن اختلفت النوعية الآن في الإشارة عنها في ماسبيرو.
أبدأ لعبة تخيلاتي .. طفلة صغيرة بضفيرتين أراها تهزهما بشكل مرح .. فتدور الضفائر فوق رأسها كمراوح الهليكوبتر .. وما تلبث أن ترتفع أقدامها عن الأرض لتطير!
انتبه لبروز صدر فتاة ترفع رأسها وتمشي منتصبة .. ولسان حالها يقول .. أين العيون لترى .. أبدأ لعبتي فأبدل مكان الصدر لأضعه في الخلف .. ابتسم لرؤيتها مسطحة تماما من الأمام و أربع نتوءات تبرز في ظهرها وتنمو وتزداد ضخامة .. وما يلبث الثقل أن يجعلها تنكفئ على ظهرها..
أغرب ما رأيته – حقيقة بدون تخيل – رجل يمشي في زحام شارع السودان .. متخذا مسارا عجيبا لخطواته .. كأنه يرى سلك سماعة تليفون كبيرة ويسير عليه .. خطواته على شكل دوائر يلف فيها بكامل جسده .. يدور .. فيقطع في أكثر من ضعفي الوقت ما نقطعه في ثوان.. تبسمت أن رحمه الله بهذا المرض النفسي من تخيلاتي وأمراضي النفسية..
بائعة خبز تفترش الطريق .. ولا يوجد أمامها مشتر واحد.. ألقي نظرة على النور الأحمر للإشارة .. وأدندن بيتا كتبته مقدمة لقصيدة طويلة منذ خمسة عشر عاما أو يزيد أيام الدراسة الثانوية.. لكني لم أكتب إلا:
(من يأخذ جسدي المتعب عني؟
يعطيه لبائعة الخبز..
كي تلقي نصفا في النار
وتنام مع النصف الآخر.. )
أرفع صوتي ببيت الشعر القديم وابتسم، هل هي بائعة خبز أم خبازة .. فاحتار في هوية من كنت أريد النوم معها في تلك الأيام!
تقفز في رأسي كل أبياتي المبتورة.. قصائدي التي لم تتم:
(إلا هي.. إلا هبة..
ذات العيون اللاهية..
اللاهبة)
أكنت حينها أتنبأ أني بعد عشرين عاما ستقتحم هبة حياتي؟ تجتاحني ببراءتها اللاهية وحضورها الذي يشعل نيران العشق بي؟
عربة معدنية شبيهة بالكارو تأخذني من تفكيري بهبة .. العربة تحمل ما لا يقل عن 12 شيكارة أسمنت، حوالي 600 كيلوجرام.. مجهزة بيد واحدة في المقدمة ليجرها رجل.. يمشي وذراعاه للخلف ساحبا كل هذا الثقل.. تساءلت عن مسمى هذا العمل .. ماذا نطلق على الرجل؟ شيال؟ ليست هي الكلمة المناسبة .. ياااااااااه ما زال في بلادما من يمتهنون مهنا هي في الأصل لحيوانات الجر .. أستغفر الله ربي.. جسد الرجل نحيل لكنه يعافر ليجر الحمل الثقيل .. رأسه للأمام ناظرا لأعلى .. خلف العربة يمشي شاب أنيق أظنه صاحب البضاعة .. المشتري .. يسرع خطوتين ليساعد الرجل فيدفع العربة من الخلف .. يخف الحمل قليلا عن الرجل ويبدو عليه الامتنان.. ترتفع الكلاكسات خلفي فأرى بداية تحرك السيارات أمامي.. أتحرك ببطء وقبل أن أصل إلي الإشارة.. يزجرني الضوء الأحمر ثانية لأقف.
لا أجد برأسي ألعابا نفسية أخرى .. ازدحمت الضفة الأخري .. أدير الكاسيت فيرتفع الصوت (أمانة يا ريس الغليون ترجعهم يالالالي .. آخد حبيبي في إيدي والباقي غرقهم يا لالالي) أرى الحبية أعلى الجبل تراقب تصاعد الدخان الأسود من مدخنة الجسد المعدني الضحم للسفينة التي سرقت حبيبها لتلقيه في غياهب العمل الشاق .. فتصرخ على ريس المركب أن يعود به .. لكن لماذا يغرق الآخرين؟ هل من شدة لوعتها للفراق لا يهمها من الخلق جميعا إلا هو.. أعود لألاحظ تناقضي شخصيا .. ألست أنا القائل (إلا هي....) !
يدخل الرجل والعربة مجال نظري ثانية .. ينفصل عنه الشاب نافضا يده – ماديا ومعنويا – ويعبر الطريق نحوي حيث محطة الأوتوبيس .. إذن لم يكن صاحب البضاعة .. إذن كانت مجرد مساعدة لهذا المجاهد ساحب العربة .. الله عليك .. شاب بملابس مهندمة نظيفة يساعد من لا يعرفه ولم يكلمه .. لا يخشى أن يراه زميل عمل وهو يدفع عربة .. لا يخشى على هندامه .. هزت هذه اللفتة الإنسانية إحساسي .. تمتلأ الصحف بما لذ من إشعال الفتن .. معركة العوا وبيشوي .. فتنة طائفية في المرج.. يقتل صديقه من أجل 30 جنيها .. أين هذا على أرض الواقع .. هل هي المتناقضات؟ لا أعتقد أن الشاب سأل الرجل عن ديانته أو انتمائه السياسي أو رأيه فيما يجري .. هل هو مع أو ضد .. لم يخطر بباله ولن يخطر أي من هذه التساؤلات.. مازالنا بلطف من الله ورحمة بنا نحمل بعض صفاتنا الإنسانية.. ما زلنا رغم ما يمر بنا من زرع مبادئ الأنامالية والأنانية .. يا رحمن يا كريم .. احمنا ولا تحرمنا من القليل الذي ما زال يجري في دمائنا من رحمة وشفقة وتعاطف..
يلمع اللون الأخضر مبتسما .. أرفع صوت الكاسيت
من بين شقوق الشيش و شقشقت لك
مع شهقة العصافير و زقزقـــــــت لك
نهار جديد انا . . قوم نشوف نعــمليه
انا قلت يا ح تقتلني .. يا ح اقــــــــتلك
عجبي !!!
وأنطلق لأبدأ يوم عمل جديد أدعو الله أن لا يهزمني لأعود لبيتي منتصرا.
الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010
برواز جديد لصورة قديمة
ايه يا مصطفى.. تسربت سنينك وتساقطت مع اللون الأسود للحيتك .. تاركة شعيراتك الكثيفة بيضاء من غير سوء .. صرت تحمل داخل كهولة جسدك كهولة الروح.. ومازلت تسعى لإقناع نفسك أنك تبدأ الطريق .. يجذبك شعاع الإطراء باسكتشاتك البسيطة .. تحلق منتشيا فرحا وزهوا بتعليق يجاملك به معجب بإحدى لوحاتك .. ايه يا ابن مولانا ومصورنا الأكبر .. أين أنت طيلة عشرين عاما خاصمت فيها حياتك الفرش والألوان .. ارتكنت فيها للجمود واجتذبك سحر السبات الدائم في دوامة اللاحركة.. أو الحركة التى لا تتجاوز القصور الذاتي.. دوامة اعتصرت روحك .. حتى وهي تعتصرك وتمتص أيامك لم تكن فيها فاعلا .. حياة كاملة تركتها وركنت للون رمادي حيادي كئيب .. ماذا يفيدك البدء الأن.. .. وهل تصلح الألوان ما أفسده الدهر؟
جالسا على الأرض كنت .. أرى مصطفى أمامي في المرآة الكبيرة المغلفة لدولاب حجرة النوم.. ولم أكن معتادا على محادثته بصوت مرتفع .. غاية ما أفعله أن أنظر إليه بابتسامة استخفاف حقيقي .. مرددا بلا صوت: من أنت؟ وبالطبع كان يرد لي الابتسامة بأسخف منها ..
لا أعرف بالتحديد ما الذي جعلنى أسمعه اليوم صوتي بنبرة حادة وبحروف واضحة وبلغة عربية فصيحة أضغط عليها جيدا لتظهر …. تندفع كلماتي وتساؤلاتي التي أعلم يقينا أنها ستجعله في جلسته هذه أياما ولن يفكر حتى في النوم .. أعود مستدركا ومصححا معلوماتي عنه .. بل سينام ملء عينيه .. متدثرا بالسكينة نافضا عنه غبار تساؤلاتي المقلقة.. هكذا كان وهكذا سيبقى .. سيستمر
اهتزت ابتسامة شاحبة على وجهه وباغتني :
- تعرف ؟ منذ أسبوعين صادفت زميلك القديم الناقد التشكيلي سعيد كمال .. في لحظة غير محسوبة التقى وجودانا ثانية مصادفة لم أحسب لها .. وجدتني عفويا أصافحه وأذكره بأيامنا معا ..كان كمن لا يعرفني .. اعتصر جبينه بحركة تمثيلية مسرحية حاول أن تبدو طبيعة…..
صمت مصطفي قليلا فأسرعت بمجاراته قائلا :
- حاول أن يتذكر؟! كل تلك الأيام.. تلك النهارات التي قضيناها سيرا على الأقدام! قضاءنا وقت ما بين المغرب والعشاء على زهرة البستان… طوافنا بالليالي على ندوات متفرقة بالمحافظات القريبة من القاهرة.. حتى أحياء القاهرة أرهقناها وأرهقت أزقتها أقدامنا .. مراكز الشباب صالات الفن التشكيلي.. كان يحاول أن يتذكر كل هذا؟!
قهقه وأدار وجهه مستلقيا على ظهره وعاقدا كفيه وسادة تحت رأسه:
- خبط صاحبك رأسه بكفه كمن تذكر تلك الأيام ولم يوضح أنه تذكرني شخصيا.. علق بكلمات قليلة موضحا أن ما قمت به أنا من زواج وفتح بيت جديد والسعي وراء لقمة العيش كل هذا صار بطولة في أيامنا هذه.. كان كمن يؤنبني ويذكرني بأني ابتعدت طائعا زاهدا فيما منحني الله من موهبة.
صحت بمصطفى أحاول إفاقته :
- لكن هذا ما كان .. اخترت طريقك بعيدا عن لوحاتك.
ازدادت المرارة بكلماته واحتد علي:
- اختيار؟ عن أي اختيار تتكلم … وأي بطولة فيما فعلت .. هل صار الزواج بطولة؟ .. كان كلامه مجرد تلغراف مواساة .. تعزية إن شئت الدقة… هل السعي وسط القطيع صار مجدا.. إن ساروا يمينا كنت معهم.. شمالا سبقتهم.. أي معنى لتحملك ما تثيره حوافر القطيع من غبار لزج يلتصق بأيامك فتمشي.. محبطا تمشي… نائما مستيقظا تمشي..
- إذن لم يكن اختيارك؟.
- لم أزهد يوما عشقي لامتزاج الألوان لتلد ذلك الطفل الإلهي المدهش .. الإبداع .. لم تزهد أصابعي احتضان الفرشاة .. كنت أحاول حين يغلبني شبقي وشوقي أن أراودها عن نفسها فتأبي.. كانت كفتاة مغترة بجمالها تهب نفسها لمن تريده لا من يحترق شوقا لها.. أنت أعلم الناس بما كنت أحمله لها.
- أذكر قضاءك الساعات في مرسم والدك..
- كنت أحسد أبي .. يفتح باب المرسم منهكا .. يدعوني لأرى لوحة جديدة لم تجف ألوانها .. أقف أمامها _ أنا ناقده الأول _ فيراقب حركة عيني على اللوحة محاولا أن يستشف انطباعي الأول.. كان رحمه الله كطفل أنهي فروضه المدرسية وينتظر قطعة سكر .. عشت سنينا وأنا قطعة سكره.. وقبل أن أفتح فمي مبديا رأيي يقاطعني أين لوحاتك؟ لماذا توقفت عن اقتباس قطعة من روحك وبثها في عمل جديد … يشعر بالمرارة تأكل روحي فيعود طالبا رأيي .. استمرأت اللعبة معه .. وفضلا عن ذلك أشاركه قبل ميعاد معرضه وضع برواز يتناسب واللوحة.. سنفرة .. دهان .. أعيد ترتيب المرسم .. أشد قطعة جديدة من التوال وأرص أنابيب الألوان والفرش.. أتمم على الألوان لأشترى ما فرغ منها .. كل تلك السنوات لم تدعوني الألوان يوما لدفء حضنها.
- أحاول أن أفهمك.
- أنا لا أفهمني … لا أستطيع وصف ما فعله بي لقائي بصديقك القديم .. رأيت الألوان تقفز لتسكن بين أصابعي .. ترتمى على سطح التوال الأبيض لتسطع أقمارا وشموسا .. ينير وهجها روحي ويبعث الدفء في نفسي .. أحاسيس كنت أظنها ماتت ودفنت بغير رجعة.
- جميل .. لم تخل إذن مصادفتك له من فائدة..
- جاهدا كنت أحاول اقتناص فرصة انبعاث الوهج ثانية .. غريق يلتمس لوحا خشبيا.. أرسلت لصاحبك إحدى اللوحات .. بل اثنتين.. وانتظرت طويلا رده الذي لم أتلقاه.
- ولم تحاول مقابلته ؟ قد يكون رغب في أن تحاول مرارا أن تنال شرف لقاءه.
- أوضحت له في رسالة أني لا أؤمل أن يكتب دراسة نقدية .. كان غاية سعيي تعليقا صغيرا ممن يعد الآن متخصصا ..
- ولماذا لم تفترض أنه احتراما لعشرة قديمة لم يرد .. قد يكون عدم الرد أحيانا ردا معبرا.
_ حتى هذا أوضحته له.. أن لا يقلق .. فإن لم يلق عملي قبولا لديه .. عدت ثانية للمشي مع رفاقي أفراد قطيعي العملي .. نرسم غلاف كتاب ذي توزيع محدود … نصمم ملصقا دعائيا .. ونسير .. نمشي .. محبطين نمشي .. منتشين … نائمين …..
صمت قليلا .. زفر مخرجا كما مدهشا من الهواء .. واستمر الصمت.
إيه يا مصطفى .. كانت تكفيني وتكفيك تلك الابتسامة المستخفة .. سؤالي من أنت … ستهجر ألوانك ثانية متعللا بأنها من تركك .. إيه يا مصطفي.. أنت نفسك لم تستطع تحمل الوهج الساطع منك .. يا ابن معلمنا الكبير .. أناشدك الله ألا تيــــ……
قاطعتني ابتسامته المستسلمة .. المستخفة … بحثت عن سجائري مد يده وأشعل معي واحدة .. حمل جسده بصعوبة وارتمي نائما ينفث دخانه في الهواء.
جالسا على الأرض كنت .. أرى مصطفى أمامي في المرآة الكبيرة المغلفة لدولاب حجرة النوم.. ولم أكن معتادا على محادثته بصوت مرتفع .. غاية ما أفعله أن أنظر إليه بابتسامة استخفاف حقيقي .. مرددا بلا صوت: من أنت؟ وبالطبع كان يرد لي الابتسامة بأسخف منها ..
لا أعرف بالتحديد ما الذي جعلنى أسمعه اليوم صوتي بنبرة حادة وبحروف واضحة وبلغة عربية فصيحة أضغط عليها جيدا لتظهر …. تندفع كلماتي وتساؤلاتي التي أعلم يقينا أنها ستجعله في جلسته هذه أياما ولن يفكر حتى في النوم .. أعود مستدركا ومصححا معلوماتي عنه .. بل سينام ملء عينيه .. متدثرا بالسكينة نافضا عنه غبار تساؤلاتي المقلقة.. هكذا كان وهكذا سيبقى .. سيستمر
اهتزت ابتسامة شاحبة على وجهه وباغتني :
- تعرف ؟ منذ أسبوعين صادفت زميلك القديم الناقد التشكيلي سعيد كمال .. في لحظة غير محسوبة التقى وجودانا ثانية مصادفة لم أحسب لها .. وجدتني عفويا أصافحه وأذكره بأيامنا معا ..كان كمن لا يعرفني .. اعتصر جبينه بحركة تمثيلية مسرحية حاول أن تبدو طبيعة…..
صمت مصطفي قليلا فأسرعت بمجاراته قائلا :
- حاول أن يتذكر؟! كل تلك الأيام.. تلك النهارات التي قضيناها سيرا على الأقدام! قضاءنا وقت ما بين المغرب والعشاء على زهرة البستان… طوافنا بالليالي على ندوات متفرقة بالمحافظات القريبة من القاهرة.. حتى أحياء القاهرة أرهقناها وأرهقت أزقتها أقدامنا .. مراكز الشباب صالات الفن التشكيلي.. كان يحاول أن يتذكر كل هذا؟!
قهقه وأدار وجهه مستلقيا على ظهره وعاقدا كفيه وسادة تحت رأسه:
- خبط صاحبك رأسه بكفه كمن تذكر تلك الأيام ولم يوضح أنه تذكرني شخصيا.. علق بكلمات قليلة موضحا أن ما قمت به أنا من زواج وفتح بيت جديد والسعي وراء لقمة العيش كل هذا صار بطولة في أيامنا هذه.. كان كمن يؤنبني ويذكرني بأني ابتعدت طائعا زاهدا فيما منحني الله من موهبة.
صحت بمصطفى أحاول إفاقته :
- لكن هذا ما كان .. اخترت طريقك بعيدا عن لوحاتك.
ازدادت المرارة بكلماته واحتد علي:
- اختيار؟ عن أي اختيار تتكلم … وأي بطولة فيما فعلت .. هل صار الزواج بطولة؟ .. كان كلامه مجرد تلغراف مواساة .. تعزية إن شئت الدقة… هل السعي وسط القطيع صار مجدا.. إن ساروا يمينا كنت معهم.. شمالا سبقتهم.. أي معنى لتحملك ما تثيره حوافر القطيع من غبار لزج يلتصق بأيامك فتمشي.. محبطا تمشي… نائما مستيقظا تمشي..
- إذن لم يكن اختيارك؟.
- لم أزهد يوما عشقي لامتزاج الألوان لتلد ذلك الطفل الإلهي المدهش .. الإبداع .. لم تزهد أصابعي احتضان الفرشاة .. كنت أحاول حين يغلبني شبقي وشوقي أن أراودها عن نفسها فتأبي.. كانت كفتاة مغترة بجمالها تهب نفسها لمن تريده لا من يحترق شوقا لها.. أنت أعلم الناس بما كنت أحمله لها.
- أذكر قضاءك الساعات في مرسم والدك..
- كنت أحسد أبي .. يفتح باب المرسم منهكا .. يدعوني لأرى لوحة جديدة لم تجف ألوانها .. أقف أمامها _ أنا ناقده الأول _ فيراقب حركة عيني على اللوحة محاولا أن يستشف انطباعي الأول.. كان رحمه الله كطفل أنهي فروضه المدرسية وينتظر قطعة سكر .. عشت سنينا وأنا قطعة سكره.. وقبل أن أفتح فمي مبديا رأيي يقاطعني أين لوحاتك؟ لماذا توقفت عن اقتباس قطعة من روحك وبثها في عمل جديد … يشعر بالمرارة تأكل روحي فيعود طالبا رأيي .. استمرأت اللعبة معه .. وفضلا عن ذلك أشاركه قبل ميعاد معرضه وضع برواز يتناسب واللوحة.. سنفرة .. دهان .. أعيد ترتيب المرسم .. أشد قطعة جديدة من التوال وأرص أنابيب الألوان والفرش.. أتمم على الألوان لأشترى ما فرغ منها .. كل تلك السنوات لم تدعوني الألوان يوما لدفء حضنها.
- أحاول أن أفهمك.
- أنا لا أفهمني … لا أستطيع وصف ما فعله بي لقائي بصديقك القديم .. رأيت الألوان تقفز لتسكن بين أصابعي .. ترتمى على سطح التوال الأبيض لتسطع أقمارا وشموسا .. ينير وهجها روحي ويبعث الدفء في نفسي .. أحاسيس كنت أظنها ماتت ودفنت بغير رجعة.
- جميل .. لم تخل إذن مصادفتك له من فائدة..
- جاهدا كنت أحاول اقتناص فرصة انبعاث الوهج ثانية .. غريق يلتمس لوحا خشبيا.. أرسلت لصاحبك إحدى اللوحات .. بل اثنتين.. وانتظرت طويلا رده الذي لم أتلقاه.
- ولم تحاول مقابلته ؟ قد يكون رغب في أن تحاول مرارا أن تنال شرف لقاءه.
- أوضحت له في رسالة أني لا أؤمل أن يكتب دراسة نقدية .. كان غاية سعيي تعليقا صغيرا ممن يعد الآن متخصصا ..
- ولماذا لم تفترض أنه احتراما لعشرة قديمة لم يرد .. قد يكون عدم الرد أحيانا ردا معبرا.
_ حتى هذا أوضحته له.. أن لا يقلق .. فإن لم يلق عملي قبولا لديه .. عدت ثانية للمشي مع رفاقي أفراد قطيعي العملي .. نرسم غلاف كتاب ذي توزيع محدود … نصمم ملصقا دعائيا .. ونسير .. نمشي .. محبطين نمشي .. منتشين … نائمين …..
صمت قليلا .. زفر مخرجا كما مدهشا من الهواء .. واستمر الصمت.
إيه يا مصطفى .. كانت تكفيني وتكفيك تلك الابتسامة المستخفة .. سؤالي من أنت … ستهجر ألوانك ثانية متعللا بأنها من تركك .. إيه يا مصطفي.. أنت نفسك لم تستطع تحمل الوهج الساطع منك .. يا ابن معلمنا الكبير .. أناشدك الله ألا تيــــ……
قاطعتني ابتسامته المستسلمة .. المستخفة … بحثت عن سجائري مد يده وأشعل معي واحدة .. حمل جسده بصعوبة وارتمي نائما ينفث دخانه في الهواء.
الأحد، 3 أكتوبر 2010
وجوه النرد الستة
1 __________________________
عدت للعمل بعد يوم واحد أجازة مرضية .. أحمل فوق رأسي مسئولية أي تأخير حدث بالأمس .. مجموعنا لا يتعدى السبعة .. أنا الأكبر والأقدم والمسئول عنهم .. مصادفة وقعت عيناي على كارت شخصي لمحيي الشوادفي أحدث أفراد المجموعة وأعلاهم صوتا رغم كبر سنه.. اسمه يتوسط الكارت وتحته بخط منمق (رئيس القسم) !! لم أتعجب من سرقة مسماي الوظيفي .. فأنا أدرى الناس بمحيي وشخصيته الزلقة المتسلقة.. لكني لم أستوعب كيف استطاع في يوم واحد وحيد أن يطبع هذه الكروت!
2 __________________________
نظر إلى الجنيهات القليلة على الكوميدينو .. وخرج .. لم يحمل منها شيئا .. على ناصية الشارع ألقى التحية على صاحب محل البقالة .. دخل بثقة .. وضع يديه يقلب جيوبه.. وتراجع خارجا …. بادره البائع بالسؤال عن طلبه… بلع مرارة بحلقه واعتذر بكبرياء زائف وعدم اكتراث :
- نسيت النقود.
رد البائع بثقة :
- ولا يهمك .. حاسبني في أي وقت.
- نسيت النقود.
رد البائع بثقة :
- ولا يهمك .. حاسبني في أي وقت.
3 __________________________
تم منع التدخين داخل المبنى .. تعمد في كل مرة يدخل المدير عليهم أن يضع سيجارة في فمه لعدة دقائق .. حركة تشعره بالرضا عن نفسه.. بالعتراض الصامت على الإدارة.. وبعد فترة يخرج ليشعلها بالخارج..
ينبهه زميله: هاتنسى مرة وتولعها هنا.
يبتسم ويشعل السيجارة بالخارج.
ينبهه زميله: هاتنسى مرة وتولعها هنا.
يبتسم ويشعل السيجارة بالخارج.
4 __________________________
أقف وسط الدائرة .. أنا الأكبر .. تربطني بهم خيوط حريرية شبه شفافة.. ترتخي حينا.. وأحيانا يؤلمني شدة جذبها .. بمرور الأيام نمت بعض الزوائد على جسمي وكنت فرحا بها .. أحسها درعا يحميني ويملأ نفسي زهوا حين تنعكس أشعة الشمس عليها.. مع الوقت ازدادت صلابة زوائدي ورهافة أطرافها .. صارت حادة قاطعة.. ومع كل التفافة مني ينقطع أحد الخيوط الحريرية… الأن توحشت زوائدي وانغرست بالأرض فشلت حركتي تماما حتي كادت تمنعني من الاتفات.. حمدت الله أن الزوائد الحادة لن تتسبب في قطع خيط آخر..
نظرت حولي مبتهجا… لم أجدني متصلا بأي شيء يتهدده القطع.
نظرت حولي مبتهجا… لم أجدني متصلا بأي شيء يتهدده القطع.
5 _________________________
راتب شهري ثمانمائة جنيه… لا يسمن ولا يغني…حين فقدت الأمل في أي تحسن انقطعت عن العمل ونمت بالمنزل .. في مكالمة هاتفية طلب مقابلتي.. أخبرته أني وجدت مكانا آخر.. وأخبرته أن راتبي صار ألفي جنيه .. وأخبرته …. وتهلل وجهه كأنه فرح لي.. عرض أن أعود للعمل معه مساء.. نصف الوقت فقط بكل الراتب السابق ثمانمائة جنيه… تصنعت التفكير .. تصنعت عدم حاجتي لعمل إضافي …. وأخيرا قلت : نخليهم ألف؟ ولم أندهش حين وافق.
6 ________________________
مختفيا خلف سيارة أمام بيتها وقف… فكر أن يفاجئها قائلا : منذ تركتني بالأمس وأنا واقف هنا… البيت في رأس مثلث عند تقاطع شارعين .. خشي أن تذهب من أحدهما دون أن يراها.. حين لمحته أشارت لأول سيارة أجرة وانطلقت وحدها.. في رسالة نصية قصيرة لامت وقوفه أمام المنزل وأنهت علاقة دامت ثلاثة أعوام!
لب بطيخ
شمس الشتاء الدافئة تتسحب لتقف في منتصف الحجرة .. أزيح الكليم لأعري البلاط ة .. أضع ما معي من بلي على شق صفير بين بلاطتين .. يستحثني أخي الصغير للانتهاء ليقذف كرته الزجاجية الصغيرة .. رمية واحدة ويتناثر البلي معلنا هزيمتي.
يعلو تهليل الصغير.. يرتفع صرلخه فرحا بالفوز.. فاليوم جمعة لم أذهب لمدرستي وأبي خرج مبكرا للعمل.. أجازة أبي يوم الأحد يوم صدور العدد الجديد من المجلة.. وحدنا بالبيت الأخت الكبرى نائمة وأمي خرجت لمشوار تسوقها اليومي.. فلماذا لا يرتفع تهليله؟!
طرقات عالية على باب الشقة .. أقفز مسابقا أخي .. أفتح الباب لأجد أخي الصغير بين قدمي يردد كل ما أقوله للرجلين الواقفين بالباب .. أمامهما كرتونة كبيرة مرسوم على أحد جوانبها بوتاجاز كبير..
- بيت الأستاذ سعيد محرم؟
فأرد ومعي أخي كأنه صدى
- أيوة .. أنا ابنه.
- هو موجود؟
- لأ .. في الشغل.
- طيب انده لي حد كبير.
- أختي الكبيرة مش كبيرة.
يغمزني أخي بكوعه :
- لأ كبيرة ..
فيبتسم الرجل :
- انده لها.
تتسلم أختي الكبرى البوتاجاز وتكتب اسمها على ورقة صغيرة في يد الرجل.. وتطلب منه أن يضعه لنا في المطبخ.. نتقافز أنا وأخي فرحين بالجهاز الجديد .. العضو الجديد بالأسرة .. يشعل الرجل إحدى العيون ليطمأننا على سلامة التركيب.. وينبهنا محذرا ألا نلمسه حتي تحضر أمي أو أبي.
يسأل أخي الرجل :
- هو احنا كده هانرمي الوابور؟
يقهقه الرجل :
- براحتكم بقى.
تختلف فرحتي عن الجميع .. فأنا مسئول المشاوير في البيت وإحدى مهامي إصلاح وابور الجاز حيث أقضي أغلب نهاراتي عند السمكري منتظرا دوري بين العديد من الأطفال والنساء الجالسات على الدكة الخشبية السوداء المشبعة برائحة الجاز.. وحين أجد مكانا لأجلس يأتي وابور آخر بيد سيدة أخرى فأضطر للوقوف لتجلس مكاني..
الابتسامة لا تفارق وجه أختي .. التي أسرعت بتوزيع المهام علينا.. حملنا الترابيزة لنضعها بالصالة.. وكانت المعضلة حينها كيف نفاجأ أمي حين عودتها؟ اقترحت أن نغطيه بمفرش الترابيزة القديمة.. فرحنا بالفكرة وتم التنفيذ بسرعة وسهولة ودقة غريبة علينا.
ناديت أخي لنعود للبلي .. عادت أمي فخطفت شنطة الخضار من يدها ووضعتها على الترابيزة في الصالة .. لنفاجأ بها متعجبة:
- إيه اللي جاب البتاعة دي هنا؟! هما جابوا البوتاجاز؟
لم نتوقع أن تكون المفاجأة لنا .. نظرت لأختي وانفجرنا ضاحكين.. باظت الحكاية.. لم نعمل حساب الترابيزة ولا لكون أمي بالتأكيد تعرف بقدوم البوتاجاز اليوم.
نشطنا جميعا نساعدها في تحضير الغذاء .. المرة الأولى لوضع حلتي الأرز والخضار معا لينضجا في وقت واحد.. وتبقى عين ثالثة صغيرة لعمل القهوة لأبي في الصباح .. لتختفي أيضا من حياتي السبرتاية التي طلعت عيني في تصليح رجولها الصغيرة الضعيفة .
اقتربت الساعة الثالثة .. أقفز للبلكونة منتظرا قدوم أبي اليومي .. يخرج في الثانية والنصف من المجلة في وسط البلد ليكون بالبيت في الساعة الثالثة دون لحظة تأخير..
أتابع طقوسه التي نادرا ما تتغير.. حمامه اليومي… يدخل بملابس الخروج ليهل علينا منتعشا بهدوم البيت .. نتقافز حول أمي جيئة وذهابا منها إلى السفرة حاملين أطباق الغدا .. نرصها باحتراس على السفرة .. أول وجباتنا المطهية على البوتاجاز.. وقبل أن ننتهي يصرخ أخي :
- عاوز بطيخ. أحاول إلهاءه :
- بطيخ إيه يا ابني؟ إحنا في الشتا!
تنظر لي أمي بلوم :
- انزل عشان خاطر أخوك .. هاتلاقي عند عمك عبد الفضيل.
فينزل مندوب المشتريات - أنا - لأشتريها .. أرفعها على صدري لتتناولها أمي وأجري لإحضار الفوطة الخضراء .. تغمرها أمي في الماء وتضعها على البطيخة جوار شباك المطبخ ليبردها تيار الهواء.
لكل فترة في اليوم مذاقها المختلف .. ساعاتها الممتدة الطويلة ولكل وقت منها طقوسه المختلفة المميزة .. قضيت فترة المغربية نائما .. هزات يد أخي توقظني ..
- اصحى بقى .. مش هاتلعب معايا؟
- لأ مش لاعب..
أرد متكاسلا فيقول بخبث:
- محمود هايلعب معانا هو وبثينة بنت خاله.
أقفز نافضا اللحاف والكسل : هما فين؟
- قدام البيت.
تمضي ساعة كاملة لم أشعر بها وأنا جالس بجوار بثينة على السلم.. وأخي ومحمود يقفزون حولنا ببليهم ودوشتهم .. تسمع أمي صراخ أخي وتهليله فيعلو صوتها لندخل.
أبي مستيقظ يفرد جسده على السرير .. يعيد قراءة الجرائد .. وثلاثتنا ملتفون حول أمي على الأرض.. أحاول سند ظهري على الحائط فأجد الكليم صغيرا وجسدي كله على البلاط .. فتحذرني أمي من برودة البلاط .. لأعود مبتعدا عن البلاط..
شيء هام لا أدريه أفتقده في هذه اللمة ولا أدري ما هو .. الجو بارد .. هجم الشتاء فجأة فجعل البلاط يشع ثلجا .. أتحمل وجع ظهري ولا أتحمل برودة البلاط.
يصرخ الصغير :
هو لب البطيخ فين؟
ويجري للمطبخ باحثا .. يأتي به مغسولا مفروشا على صينية ليجف.. يطلب من أمي تحميصه .. تنظر أمي تجاهي بابتسامة :
- قوم هاته.
- هو إيه؟
- الوابور.
أقفز للحمام .. منزويا في الركن أجده .. أسحبه بلطف .. أضع قليلا من الجاز فوقه .. أشعل عود الكبريت .. ليسخن وأحمله ليتوسط جلستنا .. أسرع لأحضر لوح الصاج الصغير وأضعه فوقه .. ترش أمي بعض الملح على اللب النيء وتفرده على الصاج .. ينتشر وشيش الوابور حاملا الدفء للحجرة .. طرقعة حبات اللب فوق النار .. رائحة التحميص الشهية تؤكد شعورنا بالدفء.. تقلب أمي اللب وتنظر لأبي في مودة :
- تاخد شوية لب؟
يعتدل متكئا على كوعه :
- هاتي.
صفيح وزجاج .. رمضان زماااان (مسودة فقط للاحتفاظ بالذكرى)
ليلة أول رمضان … المدينة شبه خالية .. فروع زينة قليلة تطل علينا باستحياء… أسأل زياد ابني (11 سنة) : ما شفتش حد بتاع فول. يجاوبني : يا عم أكيد هانلاقي بس نكمل آخر الشارع.
اداعبه : على أيامك ما فيش إحساس برمضان زي زمان.. يتلامض مجاوبا : إنت بس عشان كبير .. بس الاحساس ده أنا حاسسه.. شامم ريحة رمضان.. وعلى فكرة بقى فيه حاجات كتيرة انتوا عشان كبرتوا ما بتشوفوهاش بس احنا يا عيال بنبقى عارفينها
أتعجب هل تبقى من رائحة زمان شيء يشمه هو؟ إن كانت الرائحة القديمة أو ما تبقى منها كنت استطعت شمها .. أم أنها رائحة جديدة لا تستطيع أنوفنا - التي تربت على نكهة رمضان الأصيلة أن تدركها؟
تنظيف الشارع:
يفتح شهيتي للحكي .. استعدادنا لرمضان يبدأ قبل الرؤية بأيام .. لم يكن الشارع ايامها مسفلتا .. الشباب الأكبر سنا ينظمونا في مجموعات .. فجأة تجد فؤوسا وحاجات نشيل فيها التراب مش فاكر اسمها .. كنت استغرب ونحن في حي شبرا من أين تأتي هذه الفؤوس.. مجموعة مهمتها تسوية التراب وردم الحفر .. وأخرى تجمع الأوراق والقمامة.. بعدها يرش الشارع كله بالماء…
الزينة والإضاءة:
المجموعة الأصغر سنا وأنا على رأسها نمر على كل البيوت بيت بيت نلم فلوس الزينة والإضاءة والفوانيس… طبعا ما كانش فيه حاجة بنشتريها جاهزة زي الأيام دي .. كنا نتجمع عيال البيت كله ونجيب الكراريس القديمة وهات يا تقطيع بالمقصات على شكل بناطيل .. حتي الصمغ كنا بنعمله يدوي شوية نشا ف مية ع النار يبقوا صمغ آخر متنانة .. واللي ما يقدرش يجيب نشا كان يعجن شوية دقيق بميه يأدوا نفس الغرض.. وكأننا بننشر البناطيل الورق علي الخيط - كان لكل تفصيلة صغيرة طقوسها وطريقتها الخاصة - الخيط كام (شلة) خيط منجد من عند العطار .. ونستغل أذرع العيال الأصغر سنا في فك الخيط ولفه من جديد علي قطع خشبية صغيرة ..
نحسب كم متر سلك كهربا سنحتاج وعدد اللمبات .. كانت هذه مسئولية محمد سعيد أعلمنا بموضوع الكهربا وتوصيلاتها .. إن كان محصولنا من التبرعات كبيرا صنعنا خطا من اللمبات طويلا على شكل زيجزاج .. وإن لم يكن اكتفينا بخط واح بطول الشارع تحمله خيوط الدوبارة القوية
كان التنافس بين الشوارع كبيرا .. كنا نباهي بكثرة فروع الزينة - كانت كلها باللون الأبيض لأوراق الكراريس - أما الفوانيس فأعترف بفشلنا الدائم (كشارع) في عمل فانوس تحفة .. كنا نحضر قفص من الفكهاني ونغطيه بورق السلوفان الملون وبعض العصيان من قفص آخر لعمل المئذنة .. ولمبة صغيرة تنيره ليلا..
فاكر مرة صحيت الصبح ووقفت في البلكونة لقيت ولد من شارع تاني ماسك عصاية طويلة وبيحاول قطع فروع الزينة .. قبل أن أفكر في طريقة لمنعه كان عم سمير السباك - عليه رحمة الله - يشير لي أن أسكت ويتسحب من خلف الولد ليرن قلم على قفا الولد الذي طار من المفاجاة والالم
ما قبل الإفطار:
حين يؤذن العصر .. ويشتد بنا العطش والجوع .. ويمتلأ البيت بروائح السمن والصواني في فرن البوتاجاز .. كانت أمي لانشغالها في المطبخ تنادي صارخة : تعال الحق الصينية اللي في الفرن .. درجة حرارة المطبخ لا تطاق .. تهب حرارة الفرن كلها في وجهي : لسه وشها ما احمرش .. أنا نازل الشارع .. لا تجد بدا من الموافقة
نذهب لنادي الشباب القريب .. لنشجع فريق شارعنا .. النهاردة فريقنا هايقابل فريق درب خليل .. يا الله ربنا يستر .. سواء انتصرنا أو انهزمنا نعرف مقدما أن المعركة بين الشارعين قادمة لا محالة .. كان مشجعيهم يتصفون بالغباء الرياضي .. فننصرف قبل نهاية الماتش محافظين على هدومنا من الاتساخ واجسادنا من الجروح .. لو خدنا العلقة منهم في النادي هانرجع ناخد علقة تانية من اهلنا عشان خدنا العلقة الاولانية؟
نرجع قبل الافطار بنصف ساعة لأداء مهمة شراء المخللات .. وتوزيع (شفاشق) الثلج على جيراننا ممن لا يملكون ثلاجة.. كانت الثلاجة في منزل كأنها ملكا لباقي البيوت .. اتذكر لبختي الدائمة حين يخبط ولد صغير على بابنا فأنادي أمي : ماما .. علي ابن ام سمير عايز الفرخة بتاعتهم من التلاجة.. فتجاوبني:
- اسأله كان الكيس لونه إيه؟
أفتح الفريزر لأتوه في زحمة ألوان أكياس اللحوم والفراخ وأشياء أخرى لا أعرف كنهها وأرجع بالكيس الأخضر لأسأله
- هي دي؟
أذان المغرب:
أطول دقائق تلك التي تسبق الأدان .. أمسك كوب الخشاف من قبل الأذان بفترة .. الله أكبر.. ينصحني أخي الأصغر بالانتظار حتى يتم المؤذن الشهادتين .. يوضح لي أبي رحمه الله أن لا داعي للانتظار فقد دخل الوقت عند بداية اللأذان .. يعني أشرب؟! .. اشرب.
ابتهالات النقشبندي وفوازير آمال فهمي ومونولوج كوميدي اعتقد كان لسيد الملاح.. اتذكر انه كان بنفس اللحن كل يوم مع تغيير الكلمات : قل لا تتزوج اثنينِ.. دا انا من زوجة طلعت عيني.. كانت موضوعات قليلة نحفظها كلنا .. أتذكر رحلة وانا في الصف الاول الاعدادي للفيوم غني لنا مدرس اللغة العربية كلمات من تأليفه على نفس اللحن : ما أجمل رحل الفيومِ هي أحلى من الديك الرومي .. ما أجمل رحل الفيومِ .. وحتى اليوم لم أعرف لماذا جمع كلمة رحلة ليجعلها رحل وليس رحلات…
بعد الفطار :
الفوازير بطولة نيللي وكلمات العظيم صلاح جاهين .. وفي أعوام تاية فطوطة وسمير غانم .. ثم النزول لصلاة التراويح .. عربية حمص الشام أمام الجامع .. صلاة التراويح نكتفى كل يوم بصلاة أربع ركعات عشاء ونترك آباءنا في الجامع لنعود للفوانيس الزجاجية كنا لا نترك أحدا على المحطة القريبة في الميدان دون أن نغني له : ادونا العادة رب خليكوا .. قطعة قماش نطول بيها ايد الفانوس لانها كانت بتسخن من الشمعة … نجمع القروش القليلة لنشترى شمعا للفانوس استعدادا لجولة الغد .
نظل حتى السحور نلعب في الشارع تريك ترك وبيت مين ده؟ والسبع طوبات .. أغرب لعبة فيهم كانت بيت مين ده .. نحمل أحدنا وهو مغمض العينين ممدا فوق أكتافنا ونلف به الشارع ونقترب من حائط أحد البيوت ونلصق قدمه بها لنسأله بيت مين ده؟ كان عليه أن يخمن بحسب المشوار وعدد اللفات المكان الذي وقفنا به عنده! العجيب أن أكثر من ثلاثة أرباع الاجابات كانت صحيحة.. وحين يخطئ ينزل لنرفع غيره.
المسحراتي :
كنا بنبقى مازلنا في الشارع ونلقن المسحراتي أسماءنا لينده بها _ بيصحينا واحنا واقفين جنبه.. كان يأتي دائما مبكرا ..
هل كنا كأطفال أكثر سعادة من أطفال اليوم .. أم أنهم أكثر حظا بالكمبيوتر وألعاب النت والفيسبوك؟
أنتظر إجابة …………..
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)