ولأنّ الأرضَ خراب
مرت أشهر … أعوام
وهواء القرية
- ذاك الأنقى والأطهر بين بقاع الأرض -
قد غلفه ضباب
فوق تراب البلدة .. يتشعب طحلب أخضر
لزج مهترئ كهلام
كدمٍ متخثر
كبثور غطت وجها شيطانيا أدرم
ولأن الطحلب ساد
صارت أقدام شيوخ القرية
- حين تحاول أن تتكأ علي وهن العظم …
تعافر…. كي تخرج لصلاة الفجر
كي يرضى الرب الغضبان -
صارت أقدامهمُ ساحة لهو للفطر الأخضر
تنزف ألما .. تتمزق .. تتلاشى بُددا
لحم يتقطر
وعظام في غبشة ضوء الفجر تكابد ألا تتعثر
عشرات ممن نعرف عنهم تقوى الرب
قضيَت
وصار البعض - ومن فوق الركبة - أبتر
قضي الأمر
فانعقدت ألسنة النسوة..
عن ثرثرةٍ حمقاء كّفت
والثرثرة الحمقاء سمة في نسوة قريتنا
وانعقدت جلسة شورى العلماء
الصمت الحذر يسود
لا يقطعه غير الخطو الواهن للشيخ
مولانا نور الدين الأبلج
- وهـذي سمة أخرى نتوارثها ..
أن ندعو الأسود نورا
وكبير عصابات الشطار ..
الكفَّ الأطهر -
قال الشيخ الأعظم .. الأكبر سنا والأمهر :
إن الخطب عظيم!
هتف الجمع :
يامنجي يا الله
همهمة تسري في المجلس إعجابا…
بمكاشفة الخالق للشيخ بما يجري!
فتنحنح مولانا مزهوا :
لن أتحدث عما نفعل
فأنا لم أخلع هذي الجبة منـذ الأمس..
وقضيت الليلة حتى الفجر
أتقلب في فرشي مهدودا من فكر
- تهامس من يعلم من بعض شباب القرية
عن ولعٍ أسهَدَ مولانا
فوق الفخذ الريان… لعروس بكر -
أسكتهم صوته….
يتفاخر …. تتقطر من فيه الحكمة:
نكسحها بخراطيم مياه
فالنيل بلا أول أوآخر .. لن يتأثر
ارتفعت كفٌ مرتعشة…
شقت جو القاعة
في لين وميوعة
دل حرير عباءتها عن صاحبها الأخطر
رأس العسكر :
لكن يا مولانا
- والرأي لعظمتكم -
ماقول سماحتكم
أن نكسو أرض القرية بالكامل
بالطمي الفائض من ترعتنا
ينكتم الطحلب
والنيل كما - قالت حكمتكم - فياض
والخير كثير
وأيادي عسكرنا أكثر.
لحظات سكون
يقطعها صوت مبتور الأطراف إلى الجذع :
الطمي وماء النهر؟!
من دونهما ……..
- وأنا لا أجزم فالأمر بكف الرحمن
يقلب حكمته في قلب شيوخ الحكمة كيف يشاء -
من دونهما .. الغلة لن تثمر
وحدائقنا الغناء
في أغلب ظني لن تزهر
والرأي الأصوب
أن يلبس كل شباب القرية في قدميه
خفا صلبا .. مكسوا بحديد
ويدوس يدبدب، فيدُكّ الأرضَ.
حاول شاب… اتسم ببعض هدوء وسلام
….. أن يعترضَ
أخرسه شيخ هرم : افعل ما تؤمر
وانفضت جلسة شورى بلدتنا عن تكليف بالبحث عن المعدن
يتناوب ليلٌ ونهارٌ دولاب الوقت
فتدور الأيام
والمعدن مرغوب يتدلل
لا يكشف وجها للطالب
غمزات النسوة تزداد .. تتهامس عن زمن العجز الليلي
اللا قدرة… زمن جاف
يمر الليل بطيئا والأرحام عجاف
تتذلل كي تروي عطشا
تنبت بذرا
يثمر أطفالا كي تنبعث البهجة من رقدتها
انتفض شباب القرية عن بكرتهم
حافين عراة
كان خروجا عن لا رغبة
انتفضوا من رهبة أن يدنو الأجل
ينقصف العمر
وشيوخ الشورى عن آخرهم هلكوا
سيرتهم يطمسها النسيان
وتراب الوقت يغطي بئر الحكمة
دبدبة حفاةٍ هزت قشرة أرض هشة
فانفجر البركان
وكان…
أن كسحت قريتنا حمم ودخان
لا لون هنالك غير الظلمة
عام مر …. يتلوه الثاني والثالث والخامس عشر
أحداث تجري … صور مرتعشة،
وخيالات في رأسي عن ثورة
بركان غاضب
عن يوم الحشر
عن موج ناري طهر جسد القرية
أزاحت موجات الحمم قشورا عن قيح فتطهر
انزاحت أدران وطحالب
عام مر
أقضي جُلّ نهاراتي في الحقل
أوشوش فرع نبات يهتز من الريح
من هذا النبت عَلمت القصة
سيرة آبائي
أنشد أغنيتي عن ألم الوحدة فيناجيني
يروي ما كان
وأنا أتعجب كيف لنبت أخضر أن يعرف معنى الغصة
ينبئني أن الأشجار العملاقة
مازالت يجري في لحمتها ذوب الحكمة
مازالت تروي الكلمة
تورثها للأجيال .. العشب الأخضر
في هدأة ما بعد البركان
انشقت فوهة عن دود للأرض
قوم غرباء في حجم الأقزام
عراة إلا من لحية…
تكاد تلامس أطراف الأقدام
حتى النسوة غطاها الشعر الأسود من خلف
وانطلقت لحية…. لتغطي الأثداء
هتك الأقزام ستار القرية ..
ذبحوا الأطفال وعجبوا من ملبسهم
حين انتهكوا الفتيات ..
وأزالوا ستر الأغطية الكاسية عن الرأس
عجبوا من أنثى لا تنبت لحيتها كي تستر عورتها
بتروا ما نهد من الأجساد .. بترًا حتى الموت
وأنا الناجي الأوحد من أطفال القرية
وأنا الناجي الأوحد من أطفال القرية
مَن كُلِف - وهو ابن الخمسة أعوام
برعاية حقل الحنطة
الناجي الأوحد… المتفرد في وحدته.
لم يأمرني الرب
أن أصعد قمةَ جبلٍ في سيناء
أو أصنع سفنا تحمل ما شاء الرحمن
من أزواج الطير .. الإنسان.. الحيوان
تتناسل .. تتكاثر
فتعود تعمّر قربتنا
الناجي الأوحد
المتفرد في وحدته
يصنع لوحا طينيا .. يمسك قلما من غاب
يكتب تاريخا عن قرية
عن وطن كان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق